فكان في هذا الكتاب عزاء لنفسي ومجال لبعض تفكيري، وقارنت بين موقف تولستوي وموقف الغزالي، فقد كنت قرأت له كتاب «المنقذ من الضلال»، وكان مما حكى عن نفسه أنه مر بمثل هذا الدور؛ شك في كل التقاليد الدينية، واستعرض المذاهب المختلفة في الدين، وأحب أن يركن إلى الفلسفة وحدها فلم تسعفه، وإلى تعاليم الباطنية فلم يطمئن إليها، واستولى عليه الشك حتى غمره، ووقع في أزمة نفسية حادة، واحتقر سخافات الناس في التخاصم على المال والجاه والمنصب فنفر من كل ذلك.
وأخيرا بعد أن استحكمت أزمته النفسية وأخذت منه كل مأخذ مرض مرضا شديدا، ولا أشك في أن مرضه الجسمي كان نتيجة لمرضه النفسي، ثم أفاق قليلا قليلا وإذا هو يخرج من هذه الأزمة كما خرج منها تولستوي متدينا بالقلب لا بالمنطق، وبالشعور النفسي الغريزي لا بالمقدمات الفلسفية، وإن كان الفرق بينهما أن تولستوي آمن بعد إلحاد والغزالي آمن إيمان كشف بعد إيمان تقليد بينهما فترة شك.
ويأتي الطبيب بعد خمسة عشر يوما من العملية فيذكر لي أنه سيكشف عن قاع العين غدا، فأسأله: ما هي الاحتمالات المنتظرة؟ فيقول: هناك احتمالان: إما أن تكون أعصاب العين لم تقو على الالتحام، وإذ ذاك تكون العملية قد أخفقت، وإما أن تبدأ في الالتحام فيكون هناك الأمل في النجاح.
أربع وعشرون ساعة تساوي أربعة وعشرين شهرا أو تزيد، انتظار للخيبة أو الرجاء، وتردد بين اليأس والأمل، ثم لا ينفع بعد ذلك أيضا إلا الإيمان.
أحيانا أقول للنفس: ما هذا الجزع؟ وما أنت والعالم وما عينك في الدنيا؟ هلا قلت كما جاء في الحديث: (هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت).
إن الذي يوقعك في هذا التكفير المحزن هو انطواؤك على نفسك وتقويمك لها قيمة أكبر مما تستحق، وهل أنت إلا ذرة صغيرة على هذه الأرض ماضيها وحاضرها ومستقبلها؟ وهل الأرض كلها إلا هنة من هنات العالم، فلتتسع نفسك وليتسع تفكيرك ولتقدر نفسك قدرها ولتفكر في خارجك أكثر مما تفكر في داخلك؛ فإذا أنا استغرقت في مثل هذه التفكير هدأت واطمأننت؛ ولكن سرعان ما تذهب هذه الصورة كما يذهب المنظر في فيلم السينما، وتحل محلها صورة كئيبة حزينة جزعة، ولا تزال الصور تتعاقب، وكل صورة تطرد أختها، والصورة مختلفة الألوان مختلفة الأشكال، بين هادئة وعنيفة، وباسمة وباكية.
ونمت عندي حاسة السمع لتعوض ما أصاب أختها حاسة البصر، فكنت أعرف كل إنسان من صوته ومن أول كلمة ينطق بها، فلا أحتاج إلى تعريف، حتى لأذكر أن صديقا قديما انقطعت بيني وبينه الأسباب منذ نحو خمسة عشر عاما، لم أره ولم يرني، زارني فما نطق بالسلام حتى عرفت من هو وهتفت باسمه.
وتكاثر الزوار وكانوا موضع الملاحظة والنقد والتقدير: هذا زائر يحدثك الحديث فهو بلسم هموم، وموضع الماء من ذي الغلة الصادي، فيؤنسك ويسليك ويقول ما يحسن أن يقال؛ وهذا زائر قد عدم الذوق، فهو يراني في هذه الحال ويطلب إلي إذا زارني صديقي فلان أن أرجوه في أن يمنحه الدرجة الرابعة، ويشكو إلي تأخره عن زملائه ووقوع الظلم عليه، ثم هذا زائر كريم قد أنساه ما أنا فيه ما بيننا من خصومات عارضة فداس هذه الخصومات بقدميه، وكان وفيا كريما، قد نسي الحديث التافه في الخصومة، وذكر القديم القويم من الصداقة، وزائر يحز المنظر في نفسه فتكاد دموعه تسيل على خديه لولا أنه يجاهدها، وآخر يتجلد ويتصنع الثبات فإذا خرج سمعت نشيجه، إلى ما لا يحصى من مسموعات، وكل هذا يخزن في النفس طول النهار وتستعيده الذاكرة طول الليل.
وأستعرض أحيانا أحوال من فقد بصره فأتأسى به. وأقول إن المسألة ليست مسألة بصر، بمقدار ما هي مسألة نفس تتلقى الحادث، هذان مثلان بارزان: بشار بن برد وأبو العلاء المعري فأما بشار فقد واجه فقد بصره في ثبات. وعاش كما يعيش ذوو الإبصار، يمزح ويضحك ويقول إنه إذا عدم العشق بالنظر فيعشق بالإذن، ويستمتع في الحياة المادية ويستغرق في الشهوات كأقصى ما يفعله بصير، وهو قوي جبار لا يمسه أحد بسوء إلا نكل به وانتقم منه، وهو عنيد فاجر، لا يأنف أن يصف في شعره كل الصور التي لا يستطيع وصفها إلا البصير، من غبار النقع وجمال العين ولطف القوام، فلا تكاد ترى في شعره أثرا من حزن على عين، أو بكاء على حرمان منظر.
وأما أبو العلاء فأصابته الكارثة نفسها فحزن واسترسل في الحزن، فأعرض عن لذات الحياة الدنيا، وبكى نفسه وبكى الناس وبكى كل ما حوله وتحول هذا الحزن إلى سخط على الناس من الأصناف والألوان، من أمراء وقادة ورجال دين ونساء ووعاظ ومنجمين، فلم يسره شيء في الدنيا لأنه فقد السرور بالعين وحبس نفسه في البيت إذ لم ير نفسه صالحا لأن يظهر أمام الناس وهو فاقد العينين، بل أضاف إليه محبسا آخر وسمى نفسه رهين المحبسين: محبسه بفقد نظره ومحبسه في بيته؛ ومع ذلك كله ملأ الدنيا بأثره. فقد انطوى على نفسه يستخرج منها كنوزا من معارفه وتأملاته وتفكيراته، فاستضاءت بصيرته بأكثر مما كان يضيء نظره، وتألم هو فلذ الناس. وفقد البصر فبصر الناس، وكانت حياته نفعا جما في الإملاء والتأليف والتعليم والتفكير الحر الطليق الذي لم يستطعه بصير.
ناپیژندل شوی مخ