وكان حنوي وحنو أمهم عليهم بالغ الحد، حتى لكثيرا ما ضحينا بسعادتنا لسعادتهم، وتعبنا لراحتهم، وأنفقنا من صحتنا محافظة على صحتهم، ونحن نطمع أن يتولى الله وحده الجزاء، أما هم فقد يحاسبوننا على الكلمة الصغيرة يظنون أنها تجرح إحساسهم، وعلى التقصير القليل يظنونه مسا بحقوقهم، وعلى العمل يسيئون تفسيره، وقد يكون الغرض منه خيرهم؛ ولكن الموقف النبيل يقضي بأن تربية الأولاد ليست تجارة، تعطي لتأخذ وتبيع لتربح، إنما هي واجب يؤديه الآباء لأبنائهم وأمتهم، فإن قدره الأبناء فأدوا واجبهم نحو آبائهم فبها، وإلا فقد فعل الآباء ما عليهم، والمكافئ الله.
نعم رزقت الحنو عليهم حنوا شديدا حتى لينغص علي سفري إذ سافرت ورحلاتي إذا رحلت فلا أزال أذكرهم في سفري حتى أعود، ولا تهنأ لي راحة إلا إذا عدت إليهم؛ وإخواني المسافرون معي يستنكرون ذلك مني، ولا أراهم يحنون إلى أولادهم حنيني.
الفصل الثاني والعشرون
جاءت الحرب العالمية الأولى 1914، وكانت أحداثها وقودا لإلهاب الشعور الوطني، فخلع الخديوي عباس وأعلنت بريطانيا الحماية على مصر، فحز ذلك في نفوسنا، وولي الأمير حسين كامل سلطانا على مصر، فأثرت في شعورنا الطريقة التي عين بها، فقد كان والي مصر يعين من قبل سلطان الآستانة بفرمان يحمله مندوب سام من قبل السلطان، فرأينا في هذه المرة أن تعيين سلطان مصر يتم بخطاب وجهه إليه متولي أعمال الوكالة البريطانية، وعانت مصر ويلات الحرب من سوء الحالة الاقتصادية ومن اعتداء الإنجليز على الأهالي، وتشغيل العمال المصريين رغم أنوفهم، وأخذ السلطة الإنجليزية الدواب والمحصولات جبرا، وتحليق الطيارات الألمانية فوق القاهرة وإصابتها بعض الأهالي، وتسفير العمال المصريين إلى فرنسا والعراق، ونزع السلاح من المصريين. كل هذا وأمثاله ربى شعورنا الوطني، وكبت العواطف انتظارا للهدنة وتنفيذ إنجلترا ما وعدت به مصر، وإن كان وعدا غامضا، وقد أفسح هذا الأمل عند المصريين تصريحات ولسن والحلفاء بأنهم إنما يحاربون دفاعا عن الحرية ، وأنه إذا انتهت الحرب فلا استعمار ولا استغلال، وإنما تقرر كل أمة مصيرها وتدير أمورها بنفسها، خاب أمل مصر إذ رأت أن الأحكام العرفية لا تزال باقية والحالة الاقتصادية لم تتغير، واحتكرت السلطة البريطانية محصول القطن وحددت ثمنه، ولم تبد أية علامة تدل على أن في نية إنجلترا أن تمنح مصر شيئا من استقلالها، فاتجهت أفكار بعض الزعماء إلى مطالبة الإنجليز بوفاء ما وعدوا، وتألف الوفد المصري وعلى رأسه سعد باشا زغلول، ثم قبض عليه وعلى بعض صحبه، وقامت المظاهرات وكثر التخريب واشتعلت البلاد نارا، وعاقب الإنجليز الأهالي عقابا شديدا بإطلاق الرصاص على المتظاهرين والتنكيل ببعض القرى تنكيلا يذيب القلوب، إلى آخر ما يعرفه القراء من الأحداث السياسية القريبة العهد.
وكانت مدرسة القضاء تغلي من هذه الأحداث كما يغلي غيرها من المدارس العليا، وزاد غليانها أيام تكون الوفد وعلى رأسه سعد باشا زغلول، إذ كانت المدرسة تعد نفسها صنيعة من صنيعاته وعملا من أعماله الجليلة، وأن الوطنية والوفاء معا يوجبان عليها تأييده ما استطاعت، وعلى رأس المدرسة عاطف بك بركات من أقرباء سعد باشا ومن أقرب المقربين إليه.
لهذا كله ساهمت - وأنا مدرس في مدرسة القضاء - في الناحية السياسة. وظهرت هذه المساهمة من يوم تكون الوفد واعتقل سعد.
فجمعيتنا الثقافية التي سبق أن تحدثت عنها والتي كانت تخرج جريدة السفور كثيرا ما كانت تتحدث في السياسة، وتقلب ما جد من الأمور على وجوهه، فلما بدأ الوفد يتكون قالت هذه الجماعة: لم لا يكون لنا ممثل في الوفد؟ وانتدبت اثنين كنت أحدهما لمقابلة سعد باشا وعرض الفكرة عليه، فذهبنا إليه، ولكن وجدناه مشغولا فأحالنا بعد أن عرف مطلبنا على أستاذنا أحمد لطفي السيد، فحادثناه في الأمر، فسأل: وباسم من تتكلمون؟ قلنا: باسم جماعة العقليين. وناقشنا طويلا ثم عرض الأمر على سعد باشا زغلول بعد أن عرف أسماء الجماعة فاختار منا الشيخ مصطفى عبد الرازق في الوفد المصري، ولكن الشيخ مصطفى اعتذر بعد أن شاور أسرته.
ولما اشتعلت نيران الثورة كنت من المتصلين بعبد الرحمن فهمي سكرتير الوفد، وكان يضم إليه جماعة من الشبان يوزع عليهم الأعمال، فاختارني للإشراف على عملين: الأول إلقاء الخطب السياسية في المساجد عقب صلاة الجمعة، فكنت أجتمع مع بعض الزملاء وأنظم معهم إلقاء هذه الخطب وأوزعهم على المساجد وأعين معهم موضوع ما يقولون. والأمر الثاني كتابة المنشورات نذكر فيها أهم الأحداث، ومن أهم ما أذكره من هذه المنشورات منشور كتبته على أثر مظاهرات السيدات؛ ففي يوم 16 مارس سنة 1919، اجتمع لفيف من الآنسات والسيدات الراقيات وألفن مظاهرة سارت في شوارع العاصمة، وأخذن ينادين بالحرية والاستقلال وبسقوط الحماية والظلم، ويلوحن بأعلام صغيرة، فلما سرن طويلا ووصلن إلى ميدان من ميادين العاصمة ضرب الإنجليز عليهن نطاقا وصوبوا إليهن البنادق، فلم يرهبهن هذا التهديد، وقالت إحداهن: أطلق بندقيتك في صدري لتجعلوا مني مس كافل أخرى، ثم انصرفن بعد أن وقفن في الشمس نحو ساعتين، فكتبت في ذلك منشورا مطولا في وصف هذه المظاهرة وأثرها والتهيج بها، وطبع ووزع.
وقد كانت في مكتب عبد الرحمن بك فهمي مذكرة بأسماء الذين يشتغلون معه في هذه الأعمال فلما قبض عليه وختم مكتبه بالشمع الأحمر كسر بعضهم الباب وأخذ الأوراق التي يظن أنها توقع الأذى ببعض الأشخاص ومنها هذه المذكرة، ولولا ذلك لسجنت كما سجن غيري من زملائي.
وكنت شديد الصلة بسكرتير سعد باشا زغلول (كامل بك سليم)، فلما أطلق سراح سعد وذهب (كامل بك) مع الوفد إلى باريس كان علي أن أصف الحالة في مصر من حين لآخر، وأرسل بذلك تقريرات إلى سكرتير سعد ليطلعه عليها، وكانت هذه سببا في معرفة سعد باشا بي، فكثر اتصالي به، بل كان يرسل إلي الشفرة الجديدة إذا غيرت لأوصلها إلى بعض الأعضاء في مصر، إذ كنت شيخا مدرسا في مدرسة القضاء لا يظن أحد أن أمرا خطيرا كهذا يأتي إلي.
ناپیژندل شوی مخ