2
وهم فئة تعودوا النظام والقدرة على الإيضاح من دار العلوم، ولم يلتزموا عبارات الكتب وإن التزموا موضوعاتها، واتصلوا بالشيخ محمد عبده، وكانوا من خاصة تلاميذه، يعتنقون مبادئه ويستنيرون بآرائه وتوجيهاته، فلم يكونوا يلتزمون الكتب، وإنما يضعون مذكرات من أنفسهم يعتمدون فيها على الكتب القديمة، ولكنهم يعرضونها عرضا جديدا. قليلا ما يأتون بالشيء من أنفسهم، ولهم علم بالدنيا أكثر من علم الأزهريين، وتجارب في الحياة استمدوها من أعمالهم ومناصبهم، كانوا يلقونها إلينا مع دروسهم؛ درس لنا أصول الفقه الشيخ محمد الخضري، وكان لبقا لسنا ذكيا واسع الإطلاع حاضر البديهة، يجيد اللغة الغربية وفروعها والتاريخ الإسلامي كما ورد في المؤلفات القديمة، والعلوم الإسلامية كما تلقاها من شيوخه، وله قدرة على استساغة ذلك كله وإخراجه في عبارة عصرية جديدة أقرب إلى الفهم. ودرس لنا الشيخ محمد مهدي أدب اللغة العربية، وكان هذا الأدب حديث العهد في مصر، فالناس لم يكونوا يعرفون الأدب إلا على النحو الذي جاء في مثل كتاب الأغاني والعقد الفريد والأمالي ونحو ذلك. أما تأريخ الأدب إلى عصور وترجمة شعراء كل عصر وناثريه وميزة أدب كل عصر وخصائصه فشيء لم يكن معروفا في مصر، حتى أتى الأستاذ حسن توفيق العدل، وقد تعلم في ألمانيا، فأدخل هذا العلم على هذا النمط في مدرسة دار العلوم إذ كان أستاذا فيها، مسترشدا بما كتبه الألمان في تدريس أدبهم. وجاء تلميذه الأستاذ محمد المهدي فبنى عليه وأعد لنا مذكرات واسعة فيه، وكانت ميزته الكبرى تذوقه الأدب وتقويمه جيده من رديئه وحسن إلقائه للشعر وجمال نغماته، وكان كثيرا ما يخرج من الدرس إلى تعاليم الشيخ محمد عبده، من الدعوة إلى عدم زيارة القبور وإنكار الشفاعة بالأنبياء والأولياء ونحو ذلك.
3
وكان من طائفة دار العلوم أيضا الشيخ محمد زيد، رجل وقور جليل المنظر مهيب الطلعة يحتفظ بكرامته ويعتز بشخصيته، درس لنا الفقه. وكان قد مرن عليه التدريس بمدرسة الحقوق، فنقل الفقه من كتبه الأزهرية التي تعتمد على الجزئيات إلى وضع قواعد كلية تطبق عليها الجزئيات، وكان سلس العبارة ميالا إلى الإطناب.
وجمهرة ثالثة من المدنيين - إن صح هذا التعبير - منهم طائفة من كبار القضاء الأهلي،
4
يعلموننا مقدمة القوانين، أو كما يسمونها اليوم المدخل إلى القانون، ونظام المحاكم واختصاصاتها إلى غير ذلك، فيقربون أذهاننا إلى القضاء الأهلي، ويقربون الفقه الإسلامي إلى القانون الوضعي، وأصول الفقه، إلى أصول القوانين.
وهذا أحمد فهمي العمروسي بك، وهو الذي تعلم في مصر وتعلم في سانكلو بفرنسا يدرس لنا الطبيعة، فيشرح لنا النظرية ويطبقها في المعمل ويجعلنا نجرب التجارب، ولا يضع في يدنا كتابا، بل يكلفنا أن نكتب ما فهمنا وأن نرسم الأدوات التي استخدمناها، وهي طريقة كانت شاقة علينا، ولكنها كانت مفيدة لنا - ويخرج من الدرس كثيرا إلى نقد طريقتنا في التعليم وطريقتنا في الحياة ويقارن في ذلك كله بين مصر وفرنسا. ويرى أن الكلام في هذه الأمور أكثر فائدة من الكلام في الطبيعة والكيمياء، فالكلام فيهما كالخبز الجاف لابد أن يجعل سائغا بالزبد والمربى.
وهذا علي بك فوزي الذي درس في مدرسة المعلمين وتخرج في معاهد إنجلترا، يدرس لنا التاريخ - تاريخ اليونان والرومان أحيانا، وتاريخ أوروبا الحديث أحيانا، والتاريخ الإسلامي أحيانا، وهو رجل غريب بديع ظريف المظهر قصير القامة يخفي قصر قامته بطول طربوشه وعلو جزمته. يجيد الإنجليزية والفرنسية والفارسية والتركية. ويلتزم الكلام باللغة العربية الفصحى فلا يلحن، ويدخل علينا متأبطا كتبا في جانبيه لعلها تزن أكثر منه، ولا يدع الفراش يحملها له، ويفتح هذا الكتاب بالفرنسية ويملي علينا باللغة العربية بأسلوب جميل فصيح، ويخرج أحيانا عن الدرس إلى آرائه في الحياة وفلسفته في المقارنة بين المدنية الشرقية والمدنية الغربية.
وهذا محمد بك زكي يدرس لنا الحساب والجبر والهندسة وينقلنا في ذلك خطوات سريعة، حتى نصل إلى اللوغاريتمات والهندسة الفراغية والتوافيق والتبادل.
ناپیژندل شوی مخ