ختیځ ژوند
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
ژانرونه
وقد صدق المعترض، فإننا قد رضينا من شظف العيش وقشف الطعام وقنعنا بأقذر الثياب وأحقرها وأدنى السكنى وأرذلها، فقيمتنا لا تتجاوز مظاهر حياتنا. وقد فرط العامل المصري في أشد الأشياء مساسا بكيانه وهي القوت والثوب والسكن التي من أجلها يعمل، فإن لم تتوافر له على أسلوب مقبول فبئست الحياة وبئس العمل وبئس الوجود! ولعمرك ماذا يرغمه على الصبر على هذه الحال والبقاء عليها أجيالا بعد أجيال، ثم هو ينشئ أولاده عليها ويلقنهم الرضوخ لها ظنا منه أو زعما أنه لا يجد أفضل منها؟ ثم ماذا تنتظر من ذلك العامل التعس الحقير الذي يتناول نزر الأجور ويعيش العيش الشظف ويأكل الطعام القشف؟ ألا تراه يغدو بعد ذلك ضعيف البنية قليل العزم فاتر الهمة نادر الإنتاج مهما أمعن في العمل ومهما قضى من ساعات الليل والنهار؟ لقد رأيت منذ عشرين عاما عمالا في بعض مصانع الحرير في مدينة د ... يعملون في بناء متهدم وقد جلسوا صفوفا رجالا ونساء وأطفالا وهم نحال الأبدان صفر الوجوه قد دب إلى أبدانهم داء السل وفشت فيهم الأنيميا والبلهارسيا، وهم يعملون صابرين طوال النهار لمصلحة رجل يعيش بجوارهم في قصر منيف محاطا بأفخر الأثاث والرياش ويلبس أفخر الثياب ويأكل أشهى الطعام وله أولاد كالخنانيص وكلهم من الجهل على أعظم نصيب، فتخيلت أن الشيطان قد أوصل أنبوبة من هؤلاء الفقراء إلى شرايين هذا الغني حتى أفرغ دماءهم القوية في جسمه وجسم أولاده وترك العمال كما تترك دودة القز بعد إخراج خيوطها. وقد علمت أن مصنعا فخما قد شيد وتحسنت حال العمال.
وفي سنة 1920 رأيت في القاهرة في جهة «السبع قيعان» خرائب يسمونها معامل يعمل فيها رجال على هذه الطريقة عينها لحساب أرباب الأموال من تجار الشاهي والقطني، فعلمت أن الأمر ليس قاصرا على الأرياف بل إنه أيضا في قلب العاصمة وبين سمعها وبصرها، وهؤلاء العمال مسئولون عن حالتهم لعدم استقامتهم في أمورهم.
وليست طبقة العمال في مصر في عهدها الحاضر بصالحة للاستفادة من الأنظمة الحديثة، لأن معظمهم من حثالة الطبقة العاملة ولا يدخلون في حظيرة المعمل إلا بعد أن يطرقوا جميع سبل الرزق فيجدوها منسدة في وجوههم، فينقلبون إلى تلك الخرائب التي لا تحسن إلا للحشرات ويقنعون بما فيها لأنها ملجؤهم الأخير، وهمهم أن يخطفوا أجورهم لينفقوها في طعام قليل وشر كثير. وقد رأيت في مصنع حاطون الذي يصنع التحف الشرقية عاملا يعمل في حفر النحاس ويتقاضى جنيها في اليوم، ولكن هذا العامل الحاذق الماهر الهادئ ينفق كل ربحه في تدخين الحشيش، فالعامل وحده هو المخطئ والمسئول عن فقره.
وعلمت من بعض أرباب الأعمال أن معظم العمال المصريين إذا تحسنت حالتهم قليلا أسرعوا إلى ترك العمل لينفقوا ما ادخروه في الكسل والرقاد والملاهي الدنيئة حتى إذا جف معينهم عادوا يتلكئون ويتوسلون إلى صاحب العمل ليقبلهم، وإما يزايلون العمل بتاتا لينتظروا عملا أفضل من الأول فلا يعودون إلى مصنعهم الأول بتاتا. وإنك إذا غشيت محاكم الجنح والجنايات رأيت فريق المتهمين بالسرقة والنشل والتخدير والاحتيال كلهم من طبقة هؤلاء العمال الذين أتقنوا صنعة من الصناعات ثم تركوها إلى الإجرام بحكم سوء التربية أو رفقاء السوء أو العدوى الخلقية من السجون وسواها. وقد يفضل أحدهم بعض الأعمال السهلة كأن يكون كمساريا في الترام أو في السيارات الحافلة لأن العمل فيها أهون وربحها أوفر، ولأن الصناعات المصرية قد اضمحلت وماتت ولم يعد لها شأن يذكر، فسدت في وجوههم أبواب الرزق وأمسوا عاطلين. فالعامل هو الملوم وهو وحده المسئول.
ولو كان العامل من هذه الطبقة يعيش بمفرده لهان الخطب وعلمنا أنه فرد يذهب ضحية أخلاقه وكسله وتهاون الأمة في شأنه وضحية الاستعمار الأوروبي، ولكن قد يكون أحدهم رب أسرة وله زوجة وأولاد بل قد يكون له زوجتان أو ثلاث، وله من كل منهم سلسلة من الأطفال. وقد اشتهر المصري بأنه إذا كان أعزب ووجد في جيبه قليلا من المال لجأ إلى الزواج، وقد تطول فترة الزواج أو لا تطول لأن باب الطلاق مفتوح، وإن هو لم يطلق امرأته تركها أشهرا بغير نفقة ولا قوت ولا كسوة، وربما أنفق ما يربحه في زيجة أخرى أو في حب امرأة فاسدة من طبقته. ولو اتبعوا الدين ومكارم الأخلاق حسنت حالهم.
فكيف السبيل إلى النهوض من تلك العثرة والخروج من تلك الورطة والنجاة من ذلك المأزق، ونحن نيام وخصومنا متيقظون، وكلما خطا الشرق خطوة (على افتراض أنه يخطو مع أنه ساكن لا يتحرك) خطا الغرب خطوتين، وعندما شرعنا في ركوب الدراجات والسيارات تكون أوروبا قد وفقت إلى صنع الطائرة والمنطاد وبلغ فن الطيران غاية الكمال كما حدث فعلا بعد الحرب العظمى، فإن أوروبا استفادت من الكارثة ببعض الفنون فخلقت الطيران المدني للنقل والبريد، وسار المقيم في القاهرة يستطيع الوصول إلى بغداد عاصمة هارون الرشيد في ثماني ساعات! بعد أن كان يقطع المسافة في الصحراء في خمسين يوما مستهدفا لأخطار البر والبحر والسماء وقطاع الطريق، وذلك لعمري نجاح لم يحلم به سليمان ولا عفاريت سليمان؟!
والأدهى أننا وإن كنا نركب الدراجة والسيارة فإننا حتى الساعة لا نملك صنعهما ولا تصليحهما كما يجب، وقد قال لي أحد أصحاب ملاجئ السيارات بالقاهرة: «ليس يا سيدي في مصر ميكانيكي واحد يمكنه أن يصلح مانيتوه فضلا عن صنعه.»
المرحوم فريد بك يلبس طربوشا وطنيا
وإذا تركت حالة العمال قليلا وما هم عليه من الكذب وعدم الوفاء والإهمال والفقر وانتهاز الفرص وسوء معاملة عملائهم سواء في النجارة والحدادة والتنجيد وصنع الأحذية، حيث تجد أسوأ الخلق وأردأ السلوك، ورجعت بنظرك إلى جهود بعض المصريين الأغنياء في إنقاذ بني وطنهم دهشت حقا.
وإليك مأساة صنع الطرابيش في مصر، فإنه عندما نشبت حرب البلقان الأولى وصمم المصريون على مقاطعة الطرابيش النمسوية ولبس المرحوم محمد فريد بك طاقية من الصوف الأبيض من صنع شمال أفريقيا ودخل على حسين رشدي باشا؛ قابله الباشا المذكور بالسخرية وقال له: «سلامة عقلك يا فريد بك!» ونالت منه جرائد الاحتلال إذ ذاك حتى لم يقو الرجل على الاستمرار واضمحلت حركة المقاطعة شيئا فشيئا، فرأى إسماعيل باشا عاصم وهو أحد أبناء الأعيان الأغنياء أن الفرصة سانحة لإيجاد صناعة رائجة في القطر المصري، فتقدم بشجاعة وشمم وبذل جزءا كبيرا من ثروته في تأسيس مصنع للطرابيش في بلدة قها، وقد رأينا هذا المصنع فإذا هو لا يقل عن مصانع أوروبا في شيء، وقد أوجد الطربوش المصري الوطني حقيقة واستخدم عمالا من المصريين وأوجد حركة نشاط لم يسبق لها مثيل في تجارة الصوف وصناعة الأصباغ، وكانت ظروف الحرب ملائمة لانقطاع ورود الطرابيش من أوروبا. وكل أعمى وجاهل وأحمق يرى بعينيه عماه أو جهله أو حماقته أن صناعة كهذه لا بد أن تنجح في مصر أعظم نجاح لأن كل مصري يلبس الطربوش، ولو كان متوسط عدد اللابسين في مصر خمسة أو ستة ملايين وأحدهم يشتري طربوشين في كل عام، فلا أقل من صنع اثني عشر مليون طربوش، وكان من الممكن تصدير مثلها على الأقل أو ضعفها للأقطار الشرقية العربية كسوريا والعراق وشمال أفريقيا والهند وبعض ممالك أفريقيا الوسطى والشرقية.
ناپیژندل شوی مخ