ختیځ ژوند
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
ژانرونه
ولو عرفت أن هؤلاء هم خيرة الرجولة المصرية الحقة، وأن سواعدهم القوية يمكنها أن تعمل في الحقول وفي المصانع وفي الجندية، ولو أنك علمتهم ربما ظهر منهم نوابغ؛ لو علمت ذلك لأدركت أن الداء دفين وأن الجرح أبعد غورا مما تظن، وأن الشر المنتظر أكثر مما يصل إليه حساب حاسب.
بيد أن هناك فريقا آخر من الأمة المصرية هم الذين يعملون في المعامل منذ بداية هذا القرن، وقد لجئوا للصناعات الموجودة مثل محالج القطن ومصانع الدخان والمطابع. وهؤلاء لهم قصة أخرى، فقد زار مصر في عام 1908 المستر بريسلفورد الكاتب الإنجليزي الاقتصادي وكتب في جريدة الديلي نيوز مقالات وصف بها ما رآه خاصا بالعمال ونقلت مقالاته إلى الصحف العربية، قال:
ليس في مصر قانون للعمال لأنه لم يكن بها مصانع، وأغلبية الشعب تعمل في الحقول، ولكن في مصر محالج للقطن يعمل بها العمال ثلث العام أو نصفه وهم يعدون القطن للشحن والتصدير بعد حلجه وتخليصه من البذور، ويعمل في هذه المحالج أطفال ونساء ورجال، فأجرة البالغ تتراوح بين ثلاثة قروش وأربعة وأجرة الصغير من قرشين إلى قرشين ونصف إن كان ماهرا، أما ساعات العمل فلا قيد لها فقد يعمل الكبير والصغير اثنتي عشرة ساعة أو خمس عشرة ساعة بدون رقيب ولا حسيب، وعند ازدياد العمل قد يعمل الأطفال اثنتي عشرة ساعة ليلا فضلا عن النهار.
فأين بربك يوم الثماني ساعات؟ وأين الرحمة بالأطفال؟ وقد قامت كاتبة إنجليزية في 1931 تنعي على بعض المصانع سوء معاملة الأطفال، وذكرت أنهم يعملون في مصر ووراءهم قائد يسوقهم بالسياط كما لو كانوا في عهد الفراعنة أو كأنهم محكوم عليهم بالأشغال الشاقة. وقد قامت بشأنهم ضجة ثم خفت صوت الاحتجاج، فكأننا من سنة 1908 إلى 1930 لم تتغير الأحوال من حيث عمل الأطفال في المصانع المصرية.
من الأقوال الشائعة عن مصر أنها لم تغير أدوات الزرع والحرث والري التي ألفتها منذ آلاف السنين، وقد أخذ هذا دليلا على الجمود، والتمسك بالقديم، والإعراض عن الابتكار والتجديد. وعندما اخترعت أدوات حديثة لاستخراج الحجارة من المقالع قعد المصريون عن الانتفاع بتلك الأدوات وبقيت مبانيهم على ما كانت عليه، وما ذلك إلا لانطباع المصريين بطابع الجمود، فهم أسرى العادات والنظم المتفق عليها، حتى في أروع المواقف وأفجعها تراهم على حال من الفتور تدهش اللبيب ذا الحساسة.
ولا يقف نقد الناقدين عند هذا الحد، فقد ادعى أحدهم أننا ينقصنا المثل الأعلى، وأن تاريخنا القديم كله لم يخرج شخصية قوية ولم يغن العالم بشرارة عبقرية واحدة، لأن التقليد ديدننا ولأن مواهبنا محدودة بالمحافظة على كل عتيق. وقد استشهدوا بآثارنا فادعوا أن تماثيلنا كلها تصور الشخص الإنساني في وضع واحد لا يتغير وهو وضع مصطنع مستحيل فترى الشخص جالسا أو واقفا مطبقا يديه ومحدقا بك، كأن التمثال الحجري منقول عن شخص من جماد، وليس بين الآثار المصرية ما يدل على نبوغ المثال سوى تمثال الكاتب في متحف اللوفر وهو من أعمال الأسرة الرابعة.
الفصل الرابع عشر
مصر بلد أغنته الطبيعة والمصريون قوم أفقروا أنفسهم
مصر بلد أغنته الطبيعة
وإنهم يعللون هذه الحال بأن أرض مصر هي مخلوقة النيل وهبته وصنيعته، فلا حياة لها إلا بالزراعة فإن النيل جعل من الفلاح زارعا، وكان نجاح مصر وتفوقها راجعا إلى استثمار الأرض، فلم تستطع مصر الخروج عن هذه الدائرة دائرة الطين والزرع، وأن انحطاطها العقلي راجع بلا ريب إلى أسباب اقتصادية، فإن الطبقات الحاكمة استولت على ثروة البلاد لمصلحة أفراد متمايزين يعدون على الأصابع، وأن هؤلاء الأفراد لم تكن لهم إلا غاية واحدة وهي أن يستبقوا الفلاحين في العمل الدائم، ليجلبوا لهم خيرات الأرض فينفقوها هم في شهواتهم وصنوف تمتعهم، في حين أن الفلاح يبقى طول حياته عاملا كالرقيق. أما أرباب الصناعات فقد قسموهم فرقا ولم يجعلوا لهم أفقا من المطامع ولم يفسحوا لهم مجال التقدم والنجاح، فسرعان ما سقطوا إلى مستوى منحط بين البلادة والكسل وفقد الرجاء في المستقبل. أما الكتابة والتدوين وصنعة القلم فقد أمست رهن إرادة الأمراء يستخدمون أربابها في مقاصدهم ويسخرونهم في أعمالهم، ككتابة السر وتقييد أرقام الدخل والخرج ومخاطبة الفراعنة العظماء وكتابة الأحجبة والتمائم.
ناپیژندل شوی مخ