ختیځ ژوند
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
ژانرونه
وبمناسبة ذكر المرحوم محمد باش حمبا بين زعماء الشرق في هذه المقدمة نقول: إنه كان من أعظم عظماء تونس فكرا وتضحية، وقد هاجر في سبيل وطنه فتوفي عقيب الحرب العظمى وهو في منفاه بتونس، وهي ميتة شبيهة بوفاة المرحوم محمد فريد بك المصري. وقد دفن باش حمبا في برلين في مقبرة المسلمين بهاينهيد، وتهدم قبره وكان مكتوبا عليه بالعربية:
لا إله إلا الله محمد رسول الله
محمد باش حمبا
ولد بتونس سنة 1883 وتوفي ببرلين سنة 1920، كان خطيب تونس وزعيمها، وقد قضى نحبه بعيدا عن وطنه ومنعت فرنسا نقل رفاته إلى أرض بلاده، وهو مثال من زعماء الشرق الذين أسهبنا في درس أحوالهم في الفصل الأول، ونشكر الأمير شكيب أرسلان لأنه لفت نظر الشرق لترميم قبر الزعيم الشاب، وندعو كل شرقي وعربي للعمل على صيانة مدفنه إلى أن تتاح لبني وطنه فرصة نقله إلى مضجعه الأخير في تونس الخضراء، فإنها أحق بقاع الأرض بضم رفاته وهو الذي أحبها وتفانى فيها حتى فني. ولم يكن كغيره ممن يحبون أوطانهم حب خيال ووهم بل كان حبه قائما على عقيدة وعلى حقيقة، وكان قليل الكلام بقدر ما كان كثير العمل، وقد روى لنا أحد أمراء الشرقيين أنه كان في برلين أخيرا فزار الدار التي قضى فيها المرحوم محمد باش حمبا نحبه، فلقي ربة الدار فلما سمعت سؤاله عن ضيفها الراحل بكت وقالت: «لا ننسى لطفه ورقة جانبه وحياءه وحلاوة شمائله، ولا ننسى فصاحته وحبه وطنه. وكان ليلة وفاته يحدثنا عن بلاده ويصف جمالها ومحاسنها وخصوبة أرضها ووفرة خيراتها. ونهض من بيننا حوالي نصف الليل وهو يقول: تونس، آه تونس! وكان هذا آخر ما سمعناه من صوته العذب، فإننا عند الصباح ذهبنا لنقدم إليه قدحا من القهوة فإذا هو جثة خامدة!»
ولا يفوتنا أن نصرح بأننا كلما ذكرنا الإسلام لا نقصد به مجرد العقيدة، أو النظم الدينية التي جاء بها القرآن والسنة وأعمال السلف الصالح وآثار الخلفاء الراشدين في صدر الإسلام، بل نقصد المدنية والحضارة والفلسفة والعلوم والآداب ومجموعة الأفكار التي جاء بها الإسلام وصارت ثروة مشاعة لجميع الأمم التي اتخذت الإسلام دينا أو استظلت به. وقد ألقى النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
خطبة الوداع في حجه الأخير الذي انتقل بعده من دار الفناء إلى دار البقاء، وقد وصفها ج. ه. ولز المؤرخ الإنجليزي في «تاريخ العالم» بأنها أجمل وأعظم دستور إنساني رآه العالم، ونقل إلى اللغة الإنجليزية معظم فقراتها، وإليك نص تلك الخطبة البليغة: قال عليه الصلاة والسلام:
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثكم على طاعة الله، وأستفتح بالذي هو خير. أما بعد، أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في موقفي هذا. أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت، اللهم اشهد. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى الذي ائتمنه عليها. وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية. والعمد قود، وشبه العمد ما قتل بالعصا أو الحجر، وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم. أيها الناس، إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى وشعبان، ألا هل بلغت، اللهم اشهد. أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقا ولكم عليهن حق: لكم عليهن أن لا يواطئن فراشكم غيركم، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وإنما النساء عندكم عوار لا يملكن لأنفسهن شيئا، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرا، ألا هل بلغت، اللهم اشهد. أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة، فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغت، اللهم اشهد. فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا بعده؛ كتاب الله وأهل بيتي، ألا هل بلغت، اللهم اشهد. أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت، اللهم اشهد. قالوا: نعم، قال: فليبلغ الشاهد منكم الغائب. أيها الناس، إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا يجوز لوارث وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين! لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فالإسلام حضارة ومدنية ونظم سياسية واجتماعية كما هو دين وعقيدة، والإسلام دولة وعدل وقانون وفلسفة في الحياة كما هو تعاليم سماوية، ولا ريب في أن أمة تدين بالإسلام ليست في حاجة إلى غيره من النظم الوضعية، وقد خاب وأخطأ من ظن أو توهم أن الشيوعية أو المشاعية الروسية يمكن أن تظهر في الأمم الإسلامية أو تنمو أو تروج، فإن الإسلام غني بعدله ورحمته وإحسانه وزكاته ومساواته عن كل فكرة تأتي من الخارج مهما كان ما انطوت عليه من الخير أو مكافحة الشر أو تقليل مصائب الإنسانية ومتاعبها. وربما كانت روسيا أو أوروبا محتاجة إلى تلك المبادئ، فلهم الخيار في اتخاذها أو الإعراض عنها، أما نحن ففي غنى عنها وعما يشبهها، ويكفينا أن نتفهم ديننا ونحيي مبادئه في نفوسنا ونخلص لأنفسنا ولأقوامنا حتى نستعيد مجدنا، وإذا تعصبنا فإنما نتعصب للإنسانية والرحمة، للمدنية والحضارة، للتسامح والغفران، وهذه هي المبادئ السامية التي جاء بها الإسلام ونشرها في جميع ناحيات العالم، فقد كانت غايته الأولى عتق الأفكار وتحريرها وإطلاق أعناق البشر من ربقة العبودية للأرباب والأوثان والظالمين، ومن مبادئه: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.»
ناپیژندل شوی مخ