وكان ثمة حالتا انتحار غرقا، إذا ما عددنا حالة الآنسة فاريس معلمتي القديمة. أما الحالة الثانية فقد كانت حالة ماريون شيريف، والتي كانت أمي - وغيرها - تقول عن عائلتها بنبرة لا تخلو من الكبر: «هذه العائلة قد نالت نصيبها من المآسي!» فقد مات أحد أخويها من الإفراط في احتساء الكحوليات، والأخ الآخر يعيش في المصحة في تابرتون، وماريون «سارت حتى غرقت في نهر واواناش». كانوا دائما يقولون عنها إنها «سارت» حتى غرقت، بينما في حالة الآنسة فاريس يقولون إنها «ألقت بنفسها» في النهر. ونظرا لأنه لم ير أحد ما فعلته هذه أو تلك، فالأرجح أن اختلاف الصياغة هذا يرجع لاختلاف شخصيتي المرأتين؛ فالآنسة فاريس كانت مندفعة ودرامية في كل ما تفعله، أما ماريون شيريف فكانت متأنية وتفكر مليا قبل اتخاذ قراراتها.
أو على الأقل هكذا كانت تبدو في صورتها التي كانت معلقة في قاعة المدرسة الثانوية الرئيسية، فوق الصندوق الذي يحوي الكأس الرياضية للفتيات التي أحرزتها ماريون إيه شيريف، وهي عبارة عن كأس فضية تمنح كل عام لأفضل فتاة رياضية في المدرسة، ثم يحفر اسمها عليها وتعاد الكأس إلى مكانها مرة أخرى. في تلك الصورة، كانت ماريون شيريف تحمل مضرب تنس وترتدي تنورة بيضاء ذات ثنيات وسترة بيضاء بها خطان أسودان حول الياقة التي على شكل رقم 7. وكانت تفرق شعرها عند المنتصف وتثبته بالدبابيس عند صدغيها بشكل غريب، وكانت ممتلئة الجسد ذات وجه متجهم غير مبتسم.
كانت فيرن دوجرتي تقول: «إنها حامل، هذا مؤكد.» وكانت ناعومي كذلك تقول هذا، الجميع فيما عدا أمي. «لم يثبت هذا أبدا، لماذا تلوثون سمعتها؟»
فتجيبها فيرن بتأكيد: «أحدهم ورطها في هذه المشكلة ثم تخلى عنها، وإلا فلماذا ستغرق نفسها وهي في السابعة عشرة من عمرها؟»
أتى علي وقت لم تكن فيه كل الكتب الموجودة بمكتبة دار البلدية تكفيني، فوجدت أني بحاجة لأن أؤلف كتبا خاصة بي، ورأيت أن أفضل ما أفعله في حياتي هو أن أكتب رواية. اخترت عائلة شيريف لأكتب عنها روايتي، لأكتب ما حدث لهم؛ فأعزلهم وأحصرهم في الخيال. غيرت اسم العائلة من شيريف إلى هالوواي، وغيرت مهنة الأب من صاحب متجر إلى قاض؛ إذ كنت أعرف من خلال قراءاتي أنه في عائلات القضاة - كما في عائلات كبار ملاك الأراضي - يعد الانحلال والجنون من الأمور المتوقعة، أما الأم فيمكنني أن أبقيها كما هي كما اعتدت رؤيتها في الأيام التي كنت أذهب فيها إلى الكنيسة الأنجليكانية؛ حيث كانت تتواجد دائما بهيئتها النحيلة المسيطرة وهي تنخرط في الصلاة بصوت مرتفع مهيب. ونقلتهم من البيت الذي يعيشون به - ذاك البيت الصغير الذي يماثل لونه لون الخردل وهو مزخرف بالجص، والذي يقع خلف مبنى جريدة «هيرالد أدفانس»، الذي عاشوا فيه طوال حياتهم، وحتى الآن تعيش فيه السيدة شيريف وتحافظ على حشائش الحديقة مقلمة وأحواض الزهور نظيفة - إلى بيت من تصميمي؛ بيت مرتفع مبني من الطوب، وله نوافذ طويلة ضيقة ومدخل للعربات، ويحيط به الكثير من الشجيرات المقلمة بعناية على أشكال ديوك وكلاب وثعالب.
لم يعرف أي أحد بشأن هذه الرواية، ولم تكن هناك حاجة لأن أخبر أي أحد بها. كتبت شذرات قليلة من الرواية وحفظتها في مكان بعيد، لكن سرعان ما اكتشفت أن محاولة كتابة أي شيء ما هي إلا خطأ، فما أكتبه قد يفسد جمال الرواية وتكاملها في ذهني.
كنت أحملها - فكرة الرواية - معي في كل مكان أذهب إليه، كما لو كانت واحدة من تلك الصناديق السحرية التي تتمسك بها إحدى شخصيات الحكايات الخيالية، والتي ما إن يلمسها تتلاشى كل مشاكله. حملتها معي عندما كنت أتمشى مع جيري ستوري بجانب شريط القطار ويقول لي إنه يوما ما - إذا استمر العالم دون أن يفنى - سوف يمكن تحفيز المواليد الجدد بموجات من الكهرباء؛ فيصبحون قادرين على تأليف مقطوعات موسيقية مثل مقطوعات بيتهوفن وفيردي، أو أي ما يريدون، وأخذ يشرح لي كيف يمكن أن يتم دمج ما يريده الناس من مواهب وذكاء وتفضيلات ورغبات بداخل عقولهم، بالكميات المناسبة، لم لا؟
سألته: «كما في رواية «عالم جديد جميل»؟» فأجاب: وما هذه؟
ولما أخبرته قال ببساطة: «لا أدري فأنا لا أقرأ الروايات الخيالية أبدا.»
احتفظت بفكرة الرواية ، وأحسست بشعور أفضل ؛ لأن هذا جعل ما يقول غير مهم، حتى لو كان حقيقيا. أخذ جيري يغني أغاني عاطفية بلكنة ألمانية ويحاول تقليد مشية الإوزة على طول شريط القطار حتى سقط كما توقعت. «صدقيني إذا كانت كل هذه الخيالات السخيفة الصغيرة ...»
ناپیژندل شوی مخ