على أنك تقرأ للرافعي من هذا الكتاب رأيه في طريقة تدريس الأدب بالجامعة غداة تأليفها سنة 1908، فتراه يدعو إلى مذهب جديد في تدريس الأدب، وتقرأ له - من الكتاب نفسه - رده في سنة 1926 على طه في طريقته الجديدة لتدريس الأدب، فتراه ينكر عليه هذا الجديد، فتعلم من هذا وذاك أن الرافعي لم يكن يعني بحملته أن يناهض كل جديد، بل كانت غايته أن يرد إلى الأفواه كل لسان يحاول بدعوى الجديد أن ينتقص من القديم ليخلص من ذلك إلى النيل من لغة القرآن ولغة الحديث ومن تراث أدباء العربية الأولين.
ليس يعنيني هنا أن ألخص رأي الرافعي في الجديد والقديم، فمراجع البحث عن رأيه في ذلك واسعة مستفيضة، إنما قصدت إلى تعريف هذا الكتاب إلى قراء العربية في عرض موجز ووصف كاشف، أما ما دون ذلك فله من شاء من أهل الرأي والنظر، وله مني غير هذا المجال من الحديث. •••
والآن سأتجاوز الفصول الأولى من الكتاب لأتحدث عن أسلوبه في سائره، ويبدأ هذا الجزء بعد الصفحة المائة، وفيه تفصيل ما كان بين الرافعي وطه حسين منذ بدأت الخصومة بينهما حول «رسائل الأحزان» إلى أن انتهت عند مجلس النواب حول كتاب «في الشعر الجاهلي»، وهو فصول عدة، فيها ألوان من النقد مختلفة، وأساليب في البيان متباينة، ففيها التهكم المر، وفيها الهجوم العنيف، وفيها المصانعة والحيلة، وفيها رد الرأي بالرأي، وفيها تقرير الحقيقة على أساليب من فنون النقد، وفيها المراوغة ونصب الفخاخ للإيقاع، وفيها الوقيعة بين فلان وفلان، وفيها الزلفى إلى فلان وفلان، وفيها العلم والأدب والاطلاع الواسع العميق، وفيها شطط اللسان ومر الهجاء، وفيها فن بديع طريف، فيما حكى الرافعي عن كليلة ودمنة ...
ولكن أكثر هذه الفصول يطرد على مثال واحد إذا أنت نظرت إليه في جملته، فيبدأ كل فصل منها بأسلوب أليم من التهكم يفتن الرافعي فيه فنونا عجيبة حتى يبلغ نصف المقال، ثم يميل إلى طرف من موضوع الكتاب المنقود، فيتناوله على أسلوب آخر هو أقرب الأمثلة إلى ما ينبغي أن يكون عليه النقد الأدبي، لولا عبارات وأساليب هي لازمة من لوازم الرافعي في النقد إذا كان بينه وبين من ينقده ثأر ... بلى، إنها نموذج عال في النقد العلمي الصحيح لولا تلك العبارات وهذه الأساليب!
كليلة ودمنة
إن مبالغة الرافعي في التهكم قد شققت له فنونا من المعاني والأساليب، لولا الناحية الشخصية منها لكانت نماذج لها اعتبار وقيمة في أدب الإنشاء، وأبدع هذه الأساليب حديثه عن كليلة ودمنة وما نحلهما من الرأي فيما تناول من فنون الأدب، وكليلة ودمنة كتاب في العربية نسيج وحده، لم يستطع كاتب من كتاب العربية أن يحاكيه منذ كان ابن المقفع، إلا مصطفى صادق الرافعي، وكانت أول هذه المحاكاة اتفاقا ومصادفة، في مقالة من مقالات الرافعي، في طه حسين؛ إذ أراد أن يتهكم بصاحبه على أسلوب جديد، فبعث كليلة ودمنة ليقول على لسانهما كلاما من كلامه ورأيا من رأيه، فلما أتم تأليف هذا الفصل عاد يقرؤه، فإذا هو عنده يكاد من دقة المحاكاة وقرب الشبه أن ينسبه - على المزاح - إلى ابن المقفع فلا يشك أحد في صدق روايته، فنشره بعدما قدم له بالكلمة الآتية: «عندي نسخة من كتاب كليلة ودمنة ليس مثلها عند أحد ... ما شئت من مثل إلا وجدته فيها، وقد رجعت إليها اليوم فأصبت فيها هذه الحكاية ...» «قال كليلة: أما تضرب لي المثل الذي قلت يا دمنة؟ قال دمنة: زعموا أن سمكة في قدر ذراع ...» ومضى في اختراعه وتهكمه حتى انتهى إلى رأي دمنة في الدكتور طه حسين ...
6
ثم استمر ينقل - عن نسخته الخاصة - من كليلة ودمنة ما يجعله مقدمة القول للتهكم فيما يلي من مقالات في الرد على الدكتور طه حسين، فنشر منها ثمانية فصول طريفة ممتعة في كتاب المعركة، وإن قارئ هذه الفصول الثمانية ليرى فيها لونا طريفا من أدب الرافعي، لو أن الظروف واتته لأتمه فأنشأ به في العربية إنشاء جديدا له خطر ومقدار، على أن الرافعي لم يكن يقصد أول ما قصد أن يتمه كتابا، إنما دفعه إلى إنشاء هذه الفصول السبعة بعد الفصل الأول، ما لقي من استحسان القراء لهذا اللون الجديد من أساليب التهكم في النقد، وأحسب أن الدكتور طه حسين نفسه كان معجبا بهذه الفصول الثمانية من كليلة ودمنة مع ما يناله فيها مما يؤلم ويسيء، كما كان يعجب «فلان» بما ينشر له من الصور الرمزية الساخرة؛ لأن فيها فنا ومقدرة ...!
وانتهى الرافعي من حديث كليلة ودمنة بعد انتهاء هذه المعركة، وظل مهملا «نسخته الخاصة» ست سنين بعد ذلك، حتى تذكرها في سنة 1933 في إبان المعركة بينه وبين العقاد حول «وحي الأربعين» فنشر الفصل التاسع منها في البلاغ بعنوان «الثور والجزار والسكين»، ثم نشر في الرسالة سنة 1935 الفصل العاشر بعنوان «كفر الذبابة!»
7
ناپیژندل شوی مخ