وأول أمر الرافعي في تأليف كتاب «المساكين» أنه كان في زيارة أصهاره في «منية جناج» فلقي هناك الشيخ علي، والشيخ علي هذا رجل يعيش وحده، ليس له جيب يمسك درهما، ولا جسد يمسك ثوبا، ولا دار تؤويه، ولا حقل يغل عليه، يجوع فيهبط على أول دار تلقاه يتناول ما يمسك رمقه، ويدركه النوم فيتوسد ذراعه حيث أدركه النوم من الدار أو الطريق، رجل يعيش بطبيعته فوق كل آمال الناس وآمال الحياة، ولقيه الرافعي واستمع إلى خبره، فعرف من فلسفته فلسفة الحياة، ووجد عنده الحل لكل ما في نفسه من مشكلات، فكان هذا الكتاب من وحي الشيخ علي الفيلسوف الصامت في الرافعي الأديب، واجتمعت له مادة الكتاب في مجلس واحد لم ينطق فيه أحد بكلمة.
ويصف الرافعي الشيخ علي فيقول: «... هو حليم لنفسه، غضوب لنفسه، وكذلك هو في الخفة والوقار، والضحك والعبوس، والزهو والانقباض، وفي كل ضدين منهما لذة وألم، كأنه جزيرة قائمة في بحر لا يحيط بها إلا الماء، فلا صلة بينهما في المادة وإن كانت هي فيه، فالناس كما هم وهو كما هو، يرونه من جفوة الزمان أضعف من أن يصاب بأذى، ويرى نفسه من دهره أقوى من أن يصيب بأذى، ويتحاشونه رأفة ورحمة، ويتحاماهم أنفة واستغناء، ثم إن مسه الأذى من رقيع أو سليط أحسن إلى الفضيلة بنسيان من أساء إليه، فيألم وكأن ألمه مرض طبيعي، ولا فرق عنده في هذه الحال بين أن يمغص بطنه بالداء أو يمغص ظهره بالعصا ...! وهو والدنيا خصمان في ميدان الحياة، غير أن أمرهما مختلف جدا، فلم تقهره الدنيا؛ لأنه لم يطمح إليها ولم يقع فيها، وقهرها هو؛ لأنها لم تظفر به. ... وهو رجل سدت في وجهه منافذ الجهات الأربع كلها إلا جهة السماء، فكأنه في الأرض بطل خيالي يرينا من نفسه إحدى خرافات الحياة، ولكنه مع ذلك يكاد يخرج للدنيا تلك الحقيقة الإلهية التي لا تغذوها مادة الأرض ولا مادة الجسم، فهي تزدري كل ما على الأرض من متاع وزينة وزخرف ، وكل ما ردت عليك الغبطة من بسطة في الجسم أو سعة في المال أو فضل في المنزلة، وكل ما أنت من إقباله على طمع ومن فوته على خوف. ... فهو أجهل الناس في الدنيا وأجهل الناس بالدنيا ... وأنت إذا سطعت له بالجوهرة الكريمة النادرة، فلا يعدو أن يراها حصاة جميلة تتألق، وإن هولت عليه بألوان الخز والديباج، حسبك مائقا لم تر قط نضارة البرسيم وألوان الربيع ...»
هذا هو الشيخ علي الذي أوحى إلى الرافعي كتاب المساكين ونسب إليه القول فيه ورده إلى إلهامه، وهو عنده النموذج الكامل للرجل السعيد والفيلسوف الصحيح.
وقد فرغ الرافعي من كتاب المساكين في سنة 1917، وفرغ الشيخ علي من دنياه بعد ذلك بقليل، ولكن روحه ظلت تعمل في نفس الرافعي وتملي عليه وتلهمه الرأي إلى آخر أيامه بعد ذلك بعشرين سنة، والواقع أن الرافعي كان يؤمن بفلسفة التسليم والرضا فيما لا طاقة له به، إيمانا كان مادة حياته ونظام عمله، وإيمانه ذاك هو الذي كان يفيض عليه أمارات المرح والسرور حتى في أعصب أوقاته وأحرج ساعاته، فكنت لا تراه إلا مبتسما أبدا أو ضاحكا ضحكة السخرية والاستسلام. •••
كتاب المساكين الذي يقول عنه المرحوم أحمد زكي: «لقد جعلت لنا سكشبير كما للإنجليز شكسبير، وهيجو كما للفرنسيين هيجو، وجوته كما للألمان جوته.» ... هو كتاب اجتمع على إخراجه سببان: أهوال الحرب التي حطت على مصر بالجوع والقحط والغلاء، والشيخ علي الجناجي.
أغاني الشعب
اسلمي يا مصر - نشيد الاستقلال - البحر المنفجر. ***
لم يوفق شاعر من شعراء العربية توفيق الرافعي في تأليف الأناشيد، ولم يكتب لنشيد وطني أو طائفي من الذيوع والشهرة والانسجام مع الألحان ما كتب لأناشيد الرافعي، فهو بذلك خليق أن نسميه «شاعر الأناشيد».
وقد ولع منذ نشأته في الشعر بالأناشيد الوطنية والأغاني الشعبية، يفتن في نظمها، ويبدع في أوزانها وأساليبها، ففي سنة 1903 أخرج في الجزء الأول من ديوانه بضع قصائد وطنية، تفيض عاطفة وتشتعل حماسة، واشتهر من بينها قطعته «الوطن» التي يقول في مطلعها:
بلادي هواها في لساني وفي دمي
ناپیژندل شوی مخ