ولم يفته مع ذلك أن يلتمس علم ما لم يعلم عند كثير من الأطباء، فكان له حديث طويل عن المجانين مع الدكتور محجوب ثابت، والدكتور محمد الرافعي، والدكتور عبد الحميد المحلاوي طبيب الأمراض العقلية بمستشفى الخانقاه.
وقد أفاد من حديثهم بعض النوادر الطريفة التي حكاها في مقالاته ونسبها إلى نابغة القرن العشرين وزميله، على أن أكثر ما في هذه المقالات هو صحيح في جملته وفي نسبته إلا بضع نوادر! •••
أما «أحاديث الباشا» فأكثرها خيال وأقلها حقيقة، وقد اختار الرافعي أن يجعل بعض حديثه في الشئون الاجتماعية على هذا النظم حتى لا يمل قراءه.
وقد تخيل أخاه الأستاذ محمود الرافعي المحامي بدمنهور، كاتم سر الباشا الذي سماه ونسب إليه؛ لأنه كان يستوحيه كثيرا من الحقائق فيما يكتب، وقد كان الأستاذ محمود الرافعي في صدر أيامه زعيما من زعماء الشباب في طنطا، يقودهم ويرى لهم الرأي في مسائل الوطنية وتدبيرات السياسة في إبان الثورة المصرية سنة 1919 وكان يومئذ طالبا في مدرسة الحقوق.
أما «م» باشا فلا أحسب له شخصية حقيقية كان منها وكان مما روى الرافعي، ولكنها شخصية من تأليفه هو اصطنعها ليقول بلسانها ما قال.
على أن أكثر ما روى الرافعي من الروايات على لسان «م» باشا هو حقائق، ولكنها لا تنتسب جميعا إلى شخص واحد.
نقلة اجتماعية
لم يكن بين الرافعي وقرائه صلة ما قبل أن يبدأ عمله في الرسالة، ولم تكن أصوات القراء تصل إليه من قريب أو من بعيد، إلا طائفة تربطه بهم صلات خاصة كان يكتب إليهم ويكتبون إليه، فلما اتصلت أسبابه بالرسالة، أخذت رسائل القراء ترد إليه كثيرة متتابعة، حتى بلغ ما يصل إليه منها في اليوم ثلاثين رسالة أو تزيد، وأستطيع أن أقول غير مبالغ: إن الرافعي قد عرف من هذه الرسائل عالما لم يكن له به عهد، وانتقل بها نقلة اجتماعية كان لها أثر بليغ في حياته وتفكيره وأدبه، وإذا كان مؤرخو الأدب قد اصطلحوا على وجوب دراسة البيئة التي يعيش فيها الأديب والتطورات الاجتماعية التي أثرت فيه، فإن مما لا شك فيه أن الحقبة التي كان الرافعي يكتب فيها للرسالة كانت تطورا جديدا في حياته الاجتماعية نقله إلى عالم فيه جديد من الصور وألوان من الفن تبعث على التأمل وتوقظ الفكر وتجدد الحياة، وقد عاش الرافعي حياته بعيدا عن الناس لا يعرف عنهم ولا يعرفون عنه إلا ما ينشر عليهم من رسائله ومؤلفاته، فكان منهم كالذي يتكلم في المذياع، يسمعون عنه ولا يسمع منهم، وليس له ما يستمد منه الوحي والإلهام إلا ما تجيش به نفسه ويختلج في وجدانه، غير متأثر في عواطفه الإنسانية بمؤثر خارج عن هذه الدائرة المغلقة عليه.
وكان هو نفسه يشعر بهذه القطيعة بينه وبين الناس، وكان له من علته سبب يباعد بينه وبينهم، فمن ذلك كان يسره ويرضيه أن يجلس إلى أصحابه القليلين ليستمع إليهم ويفيد من تجاربهم، ويحصل من علم الحياة وشئون الناس ما لم يكن يعلم ...
ثم بدأ يكتب للرسالة فعرفته طائفة لم تكن تعرفه، وتذوق أدبه من لم يكن يسيغه، وكانت الموضوعات التي يتناولها جديدة على قرائها، وجدوا فيها شيئا يعبر عن شيء في نفوسهم، فأخذت رسائل القراء تنثال عليه، فانفتح له الباب إلى دنيا واسعة، عرف فيها ما لم يكن يعرف، ورأى ما لم يكن يرى، واطلع على خفيات من شئون الناس كان له منها علم جديد ... فكان من ذلك كمن عاش حياته بين أربعة جدران، لا يسمع إلا صوته، ولا يرى إلا نفسه، ثم انفتح له الباب فخرج إلى زحمة الناس، فانتقل من جو إلى جو، ومن حياة إلى حياة ...
ناپیژندل شوی مخ