كان بين الرافعي والإبراشي باشا ما قدمت الحديث عنه في بعض الفصول السابقة، وكان منه أن انقطعت صلة الرافعي الشاعر بصاحب العرش ليحل محله الأستاذ عبد الله عفيفي ... وسارت الخصومة بين الرافعي والإبراشي إلى مدى، حتى انتهت إلى قطع المعونة الملكية عن (الدكتور) محمد الرافعي مبعوث الخاصة الملكية لدراسة الطب في جامعة ليون!
وضاقت نفس الرافعي بهذا اللون من ألوان الكيد، ولكنه صبر له واحتمل مشقاته وتكاليفه، وألزمته الضرورة أن يقوم بالإنفاق على ولده حتى يبلغ مأمله، على قلة إيراده وضيق ذات يده، فاستمر يرسل إليه أول كل شهر ما يقدر عليه وفي نفسه أن يأتي يوم يرفع فيه أمره إلى الملك فيحط هذا العبء عن كاهله! ووجد الفرصة سانحة لذلك في عيد الجلوس الملكي سنة 1934، فأنشأ كلمة بليغة في تحيته بعنوان «آية الأدب في آية الملك»، وأرسل بها إلى الرسالة لتنشر في العدد 66 سنة 1934.
9
كانت حكومة الإبراشي يومئذ في الاحتضار، وقد تنبه الشعب وتهيأت نفسه لحادث منتظر يرد إلى الأمة سلطانها الذي فقدته منذ تولي الإبراشي باشا رياسة الديوان الملكي، وكانت الجرائد السياسية تتحدث في كثير من الصراحة عن سلطة الشعب وسلطة القصر وحقوق الأمة، وفي مثل هذه الحال لا يمكن أن تقرأ قصيدة أو مقالة إلا على وجه من وجهين، ما دام هناك رأي بإزاء رأي، وحديث عن حق الشعب وحديث عن سلطة الملك ... ... ولكن الرافعي لم يعتبر شيئا من ذلك حين أنشأ «آية الأدب ...» ولم يقدر ما يمكن أن تؤول إليه كلمته عند من يقرؤها من أهل السياسة؛ إذ لم يكن له من العلم بالسياسة ما يؤهله لأن يفهم ذلك ...!
والرسالة صحيفة أدبية تحرص على رضا قرائها جميعا على اختلاف رأيهم في السياسة، فإن صاحبها ليتوقع ما يمكن أن يوجه إليه من التهمة لو أذن بنشر هذا المقال في صحيفته، فما هو إلا أن سلمه إليه ساعي البريد حتى استقل القطار إلى طنطا ليلقى الرافعي ويحدثه من حديثه ...
والتقيا ... وفهم الرافعي ما عناه صاحبه، فأخذ مقاله فأرسل به إلى الأهرام فنشر بها صبيحة عيد الجلوس، وقرأه من قرأه، ثم كانت آخرة العهد الإبراشي بعد ذلك بشهر واحد فكتب من كتب من خصوم الرافعي يعدد فيما يعدد من «جناية الإبراشي على الأدب، أنه كان يصطنع الأدباء؛ ليحارب بهم سلطة الأمة ويسخرهم للإشادة بحكم الفرد، وكان الرافعي عنده من صنائعه، وآيته هذا المقال وآيات أخرى من تلفيق الخيال!»
10 •••
وأرسل الرافعي إلى الرسالة بديلا من هذا المقال، مقالا آخر بعنوان «أرملة حكومة»، وكان يعني به صديقنا الأديب المهندس محمد أ. وهو شاب من «أدباء القراء» أبيقوري المذهب صريح الرأي، سلخ من عمره ثلاثين سنة ولم يتزوج، وبينه وبين الأستاذ إسماعيل خ. صاحب «استنوق الجمل» صلة من الود، وشركة في الرأي، وصحبة في البيت والندي والشارع ...
لقينا مجتمعين في القهوة اجتماعنا كل مساء، فعاج يسلم ثم جلس، وسأله الرافعي: «... وأنت فلماذا لم تتزوج؟»
قال المهندس: «لست والله من رأي صاحبي فيما حدثكم به أمس؛ إني لأريد الزواج وأسعى إليه، ولكن من أين لي ... من أين لي المهر، وهدايا العروس، وأكلاف الفرح؟ إن الزواج عندي ليشبه أن يكون معجزة مالية لا قبل لي بها ...! ولو قد عرفت أن هذه المعجزة تتهيأ لي بالبخل على نفسي والقصد في نفقاتي وباحتمال العسر والمشقة على نفسي وعلى من حولي، لما وجدت ما يشجعني على هذا الاحتمال، إني لأعرف من بنات اليوم ما لا يعرف غيري، أفتريدني على أن أحتمل العنت سنتين أو ثلاثا حتى يجتمع لي من المال ما يجتمع، من أجل الوصول إلى زوجة قد يكون لي منها شقاء النفس وعدو العمر؟»
ناپیژندل شوی مخ