وهذه هي عبقرية المازني التي لا تجارى، عبقرية تعطي وقائع اليوم حقها، ولا تنسى حقوق المثل العليا في سماواتها، وهي على هذا تعطينا نموذجا منها في النكتة مع التلميذ والصاحب وعابر الطريق، كما تعطينا نموذجا منها في ثمرات الفن والأدب، وتشعر وهي تستخف وتسخر كما تشعر وهي تقدس وتجد؛ لأنها فيما «تباليه» وما «لا تباليه» إنما تصدر عن فرط شعور وعن تمييز بين مواطن النقص ومواطن الكمال.
عبد الرحمن شكري
عرفت عبد الرحمن شكري قبل خمس وأربعين سنة، فلم أعرف قبله ولا بعده أحدا من شعرائنا وكتابنا أوسع منه اطلاعا على أدب اللغة العربية، وأدب اللغة الإنجليزية وما يترجم إليها من اللغات الأخرى.
ولا أذكر أنني حدثته عن كتاب قرأته إلا وجدت عنده علما به وإحاطة بخبر ما فيه، وكان يحدثنا أحيانا عن كتب لم نقرأها، ولم نلتفت إليها، ولا سيما كتب القصة والتاريخ.
وقد كان مع سعة اطلاعه صادق الملاحظة، نافذ الفطنة، حسن التخيل، سريع التمييز بين ألوان الكلام، فلا جرم أن تهيأت له ملكة النقد على أوفاها؛ لأنه يطلع على الكثير ويميز منه ما يستحسن وما يأباه، فلا يكلفه نقد الأدب غير نظرة في الصفحة والصفحات، يلقى بعدها الكتاب وقد وزنه وزنا لا يتأتى لغيره في الجلسات الطوال.
لم يسبقه أحد فيما أذكر إلى تطبيق البلاغة النفسية - السيكولوجية - المستمدة من أدب الغرب على ما يقرءه من شعر الفحول في اللغة، ولعله أول من كتب في لغتنا عن الفرق بين تصوير الخيال
Imagination
وتصوير الوهم
Fancy ، وهما ملتبسان حتى في موازين بعض النقاد الغربيين، ومن ذلك التفرقة بين تشبيه الشفق، والفجر بدم الشهداء في قول المعري:
وعلى الأفق من دماء الشهيدي
ناپیژندل شوی مخ