وكانت «وادي النيل» صحيفة المجلس البلدي، أو صحيفة المناورات والمنازعات بين أعضائه وأحزابه، ولها - من ثم - عناية بمسائل الأسواق والدكاكين والشوارع المرصوفة وغير المرصوفة، وما إليها، فكان لها نصيب وافر من الرواج في الإسكندرية، ونصيب «لا بأس به» من الرواج خارج الإسكندرية، بعد انقطاع «الشعب» خليفة اللواء، وانقطاع «المؤيد» و«الجريدة».
أما «الأهالي» فقد كانت في نشأتها صحيفة «شبيهة بالرسمية» يشترك فيها مئات من الموظفين والعمد والأعيان؛ لأنها لسان حال رئيس الوزارة محمد سعيد باشا، وكان «محمد سعيد باشا» أحد الساسة القلائل الذين فهموا في ذلك العهد ضرورة الاتصال بالرأي العام، ووجوب الاعتماد على الصحافة في مناقشة الصحافة التي تعارض الوزارة، فأوعز إلى طائفة من أصدقائه الإسكندريين بإنشاء شركة «الطبع والنشر الأهلية»، واستهلال عملها الصحفي بإصدار صحيفة يومية تدافع عن الوزارة، وترد هجمات الصحف المعارضة عليها، فاختاروا اسم «الأهالي» لصحيفتهم عمدا؛ لأنه اسم قديم لصحيفة كان يصدرها إسماعيل أباظة باشا - رحمه الله - ولأن اسم «الأهالي» يقابل اسم «الشعب» واسم «الأمة» مصبوغا بالصبغة التي تدل على معنى «الرعية»، ولا يفهم منها معنى المقاومة والثورة.
ولم تزل «الأهالي» صحيفة الحكومة «الشبيهة بالرسمية» إلى أن سقطت وزارة سعيد باشا، وقامت بعدها وزارة حسين رشدي باشا التي أعلنت الحماية على مصر في عهدها، فلبست «الأهالي» بعد ذلك لباس المعارضة في حدود الظروف التي تسمح بها الحرب والرقابة، وكانت هذه المعارضة تقوم على أساسين: أحدهما الخصومة الوزارية بين سعيد ورشدي، والآخر إيمان سعيد بفائدة السيادة العثمانية في استنهاض الحجة «القانونية»، أو الحجة الدولية على الاحتلال والحماية، فقد كان سعيد «عثمانيا» في تفكيره وشعوره إلى اللحظة الأخيرة، وكان هو صاحب الرأي القائل بالارتباط بين البحث في مسألة الحماية، والنظر في معاهدة الصلح مع تركيا والدول المنتصرة في الحرب العالمية.
وأوشكت «الأهالي» أن تحتجب بعد اعتزال الوزارة السعيدية، وقيام الوزارة الرشيدية؛ لأن مشتركيها من الموظفين والعمد قطعوا اشتراكها، ثم جاء كساد الصحافة بعد فرض الرقابة عليها، ونشوب الحرب العالمية، فطواها فيما طواه من الصحف المهملة أو المعطلة، ولكن ظروف الحرب أنقذتها بعض الإنقاذ من حيث لا تحتسب؛ لأنها حصرت الإعلانات في أيدي شركة تحتكر الإعلانات القضائية من المحاكم الوطنية، وتتعهد للأجانب بنشر إعلاناتهم في صحيفة إفرنجية وأخرى مصرية، فكانت «الأهالي» هي الصحيفة التي تتسع لنشر تلك الإعلانات في ملحقاتها، وعندها بقية من الورق المخزون غير الورق الذي تدبره الشركة، ولولا ذلك لما استطاعت أن تعيش سنة بعد ذهاب الوزارة السعيدية، وانقطاع الاشتراكات عنها في ذلك المعترك العصيب.
وبقيت في تحرير «الأهالي» إلى نهاية الحرب، وظهور الدعوة الوطنية على يد الوفد المصري بقيادة سعد زغلول، وافترقت الخطة العامة بين الصحيفة والوفد، فتركتها وعملت في الصحيفة التي كانت تجري يومئذ على تلك الخطة، وكانت فاتحة عصر جديد في حياة مصر، وحياة الصحافة وحياتي الصحفية، يقترن بتاريخ النهضة الحديثة فيما علمت من ظواهرها وخوافيها.
ذكريات وشخصيات
صديقي المازني
صديقي المازني أحوج الأدباء إلى التعريف بحقيقة فضله؛ لأني ما رأيت أحدا من المعجبين به إلا وهو يجهل بعض مزاياه ... وليس ذلك لخمول في الذكر، فقد بلغ - رحمه الله - من الشهرة غاية ما يبلغه الأديب في البلاد العربية.
وليس ذلك لغموض في النفس يباعد ما بين ظواهرها وبواطنها، فما عرفه أحد من طول المعاشرة إلا عرف أنه من أصفى الناس سريرة، وأشبههم ظاهرا بباطن، وجهرا بخفاء.
ولكنه لم يعرف بحقيقة فضله - أو بكل حقيقة فضله - لسبب غير الخمول وغير الغموض، وهو قلة الاكتراث والاكتفاء بأيسر ما ينال، وبعضهم يسميها «ملكة السخرية»، ويخيل إليه أنها على مثال السخرية التي اشتهر بها بعض المفكرين الساخرين ... ولكنها فيما أعتقد تشبه السخرية وليست هي بها؛ لأنها تخلو في جوهرها من نكاية السخرية التي تلازمها، فلا تنطوي على النكاية بأحد، ولا تدل على حب للنكاية.
ناپیژندل شوی مخ