وما كانت صحف القاهرة الكبرى تحتاج إلى مكان للتوزيع أوسع من «زاوية عكريشة»، على جانب من رصيف المحكمة المختلطة بجوار العتبة الخضراء.
ولم تكن «زاوية عكريشة» هذه مكتبا ولا شبه مكتب، ولكنها كانت منضدة من مناضد الكتبة العموميين على ذلك الرصيف ... وكان المعلم «عكريشة» متعهد بيع الصحف جميعا يستعيرها في مبدأ الأمر من كاتبها، الذي يستغني عنها بعد الظهر - أي بعد الفراغ من كتابة العرائض للمحكمة وكتابة الرسائل لصندوق البريد - ثم بدا له أن يشتريها وكاتبها جملة واحدة، لاتساع دائرة العمل وزيادة الإقبال على الصحف اليومية بعد قيام الأحزاب السياسية، على أثر قضية دنشواي ...
ثم يخلو الرصيف إلا من المعلم عكريشة وكاتبه ومنضدته، وقلمه الذي يحمله وراء أذنه، إلى أن يودعه مكانه في الدواة النحاسية الصفراء ... ومتى خلا الرصيف هناك لم يبق مكان في القاهرة خلوا من صبي من صبيان المعلم الكبير، تكاد تحسبهم أسرع من الترام؛ لأنهم يصلون حيث لا يصل الترام، وتكاد تختلط أصواتهم بأصوات بائعي الخضر والفاكهة، ومنها النداء على «الوطن ومصر العال»!
وليس أمامي إحصاء دقيق لتوزيع الصحف في تلك الأيام، ولكنه على الحد الأقصى لا يزيد على خمسة آلاف للصحيفة الواحدة؛ لأنه الحد الأقصى الذي تبلغه طاقة المكنات الطباعية، قبل وصول مكنات البخار والكهرباء!
الإعلانات
ولا نعرف اليوم صحيفة تستطيع أن تسقط الإعلانات من حسابها، ثم تطمع في البقاء واستيفاء أبواب الأخبار والتعليقات، ولكن صحافة الأمس كانت تستطيع بلا تردد أن تسقط إعلاناتها من عددها الأول، ثم لا تفقد شيئا يعوقها أسبوعا عن الصدور.
وكانت التقاليد الموروثة والأمية معا عائقين طبيعيين لظهور «الإعلان» الصحفي إلى سنوات قليلة مضت ... لعلها هي السنوات التي ظهرت فيها أول شركة للإعلان الصحفي في هذه البلاد ...
كان من التقاليد الموروثة أن يشتري الإنسان لوازمه «المهمة»، من حيث اشتراها أبوه وجده.
وكان الريفي ينزل القاهرة لشراء لوازم الفرح، أو لوازم البناء والأثاث، فيذهب إلى أمكنة معروفة بأسمائها لا تتغير من جيل إلى جيل، وكلهم يعرف عناوين مدكور والماوردي والجمال والحمصاني، ومخازن الحدائد والأخشاب في ناحية القلعة وسوق السلاح، ولا نظن أن متجرا من متاجر القاهرة المشهورة نشر إعلانا واحدا ليكسب به «زبونا» لم يكن يعرفه قبل ذلك الإعلان ...
أما المتاجر الصغيرة التي تباع فيها لوازم البيوت اليومية، فقد كانت معروفة في أحيائها وقراها بغير حاجة إلى إعلان مكتوب ...
ناپیژندل شوی مخ