116

ويقول القلم: ما أحسبني والدكتور مغلوبين على كل حال في هذه الصفقة، وليس الحق فيها بمغلوب.

نعم، وحساب الدكتور أو «رصيده» كما يقول في لغة المصارف كثير، ففيه بقية وافرة بعد كل تعقيب واستدراك.

وإذا قلت: إن الدكتور أمن استحسان السخيف من الأدب، فاختلافك بعد ذلك في زيادة القيمة التي يقوم بها الجيد أو نقصها إنما يغير الثمن، ولا يغير جودة الشيء الثمين. •••

ومن حساب الدكتور طه حسين أنه رجل جريء العقل قويه، مفطور على المناجزة والتحدي، يستفيد مما يقتنع بصحته ومما يعينه على التحدي والتفرد فلا يحجم عن اتخاذه؛ ولهذا تغير أسلوبه الكتابي بعد دراسته للأساليب الأوروبية، فاتخذ له نمطا يوافق علمه بالعربية الفصيحة وعلمه بتقسيم المقاطع والفواصل في الكلام الأوروبي، كما يتكلمه من يجمع بين الحديث والكتابة في وقت واحد، فهو يتحدث ولا ينسى أنه يكتب، ويكتب ولا ينسى أنه يتحدث، وأسلوبه الذي اختاره أوفق الأساليب لذلك جميعا، وأولها من نوعه في اللغة العربية، وليس فيه محاكاة لأسلوب آخر في اللغات الأوروبية.

ولو كانت كتابته حديثا محضا لاسترسلت بلا توكيد ولا تكرير، ولو كانت تقريرا محضا أو درسا محضا لما انحرفت عن أسلوب الكتابة الذي لا يتحدث به القائل، ولو كانت تقريرا أو درسا على الطريقة الشرقية لما ظهرت فيها المقاطع والفواصل الأوروبية، ولجرت على سياق قريب من سياق الدروس الأزهرية، ولكن كتابته حديث فيه محاضرة ومراجعة وتنظيم، فلا يوافقها إلا ذلك الأسلوب الذي استقل بابتداعه طه حسين ولو غضب المنكرون، وقد يكون غضب المنكرين من أسباب ذلك الابتداع؛ ولأجل هذا الابتداع يغتفر ما في كتابة الدكتور من إسهاب وتكرار.

ولقد أفاد بأسلوبه هذا عملا من لم يفدهم الرأي ولم تقنعهم المناقشة، فرأوا أن العربية قد تكتب صحيحة فصيحة على أسلوب غير أسلوب الجاحظ وعبد الحميد وبديع الزمان وابن المقفع، ورأوا كاتبا كبيرا يكتبها كما يشاء هو لا كما يشاء القدماء «فتنكتب»، وتلذ وتفيد، فاستعدوا لاستحسان الفصاحة في غير قيودها القديمة، وألفوا تعديد الأساليب وطرائق التعبير إلى غير انتهاء، وذلك وحده فتح قدير.

وقد جار نصيب القوة في الدكتور طه حسين على نصيب العمق، كما أشرت إلى ذلك في نقدي لكتابه «في الصيف».

وليس بالقليل بين أكبر الأدباء العالميين من هو قوي لا يتعمق، فإني لأكتب هذا المقال بعد أن فرغت من قراءة مقال للشاعر الإسباني ميجويل دي أنامينو كتبه ليمثل به رأي الإسبان بين سائر الآراء، التي نشرتها مجلة «الشهر» الفرنسية عن فكتور هوجو لمضي خمسين سنة على وفاته، فإذا هو يقول: إن عمله في إسبانيا على الأقل كان واسعا أكثر مما هو عميق، وأرجو ألا يحسب الدكتور أنني أعود به إلى التفرقة بين السكسون واللاتين إذا أضفت إلى هذا أن شاعر الأمة الإسبانية اللاتينية يقرر أن «بيرون» والشعراء الإنجليز هم الذين وجهوا أدب تلك البلاد، وليس فكتور هوجو ولا الشعراء الفرنسيون، وإنه ليقرر ذلك في مجلة فرنسية تحتفل بهوجو في عام ذكراه! •••

والآن وقد أبرأت ذمتي وأفضيت بمجمل الرأي مع الحيطة والمعادلة والتربص، فإني على ما أرجح كاسب ولست بخاسر، فإن اختلف تقديري فسأتهم محرر الهلال بإفشاء السر، وإطلاع مناجزي على ما أعددت له قبل أن يتأهب لي بسلاحه، والمناجزة يومئذ بيني وبين محرر الهلال.

من وحي أسوان

ناپیژندل شوی مخ