قرأ: «تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى.» ثم مضى في قراءة السورة إلى آخرها وسجد فسجد المسلمون والمشركون معه، هذه القصة رواها ابن سعد في طبقاته الكبرى ولم يعرض لها بنقد، ووردت في الصحيح من بعض كتب الحديث مع اختلاف في الرواية عن الغرانيق. أما ابن إسحاق فروى هذه القصة وقال: إنها من وضع الزنادقة. وذكرها ابن كثير في كتاب «البداية والنهاية في التاريخ» فقال: «ذكروا قصة الغرانيق، وقد أحببنا الإضراب عن ذكرها صفحا لئلا يسمعها من لا يضعها في موضعها إلا أن أصل القصة في الصحيح.» ثم ذكر حديثا عن البخاري في أمرها وأردفه بقوله: «انفرد به البخاري دون مسلم.» أما أنا فلم أتردد في نفي القصة من أساسها والاتفاق مع ابن إسحاق في أنها من وضع الزنادقة؛ وسقت في تفنيدها أدلة لم أكتف فيها بما في هذه القصة من نقض ما للرسل من عصمة في تبليغ رسالات ربهم، بل استعنت فيها كذلك بقواعد النقد العلمي الحديث.
العصر الذي كتبت فيه
وسبب آخر يوجب تمحيص ما ورد في كتب السلف ونقده نقدا دقيقا على الطريقة العلمية، أن أقدمها كتب بعد وفاة النبي بمائة سنة أو أكثر، وبعد أن فشت في الدولة الإسلامية دعايات سياسية وغير سياسية كانت اختلاق الروايات والأحاديث بعض وسائلها إلى الذيوع والغلب؛ فما بالك بالمتأخر مما كتب في أشد أزمان التقلقل والاضطراب؟ وقد كانت المنازعات السياسية سببا فيما لقيه الذين جمعوا الحديث ونفوا زيفه ودونوا ما اعتقدوه صحيحا منه من جهد وعنت أدى إليهما حرص هؤلاء الجامعين على الدقة في التمحيص حرصا لا يتطرق إليه ريب.
ويكفي أن يذكر الإنسان ما كابده البخاري من مشاق وأسفار في مختلف أقطار الدولة الإسلامية لجمع الحديث وتمحيصه، وما رواه بعد ذلك من أنه ألفى الأحاديث المتداولة تربي على ستمائة ألف حديث لم يصح لديه منها أكثر من أربعة آلاف، وهذا معناه أنه لم يصح لديه من كل مائة وخمسين حديثا إلا حديث واحد. أما أبو داود فلم يصح لديه من خمسمائة ألف حديث غير أربعة آلاف وثمانمائة. وكذلك كان شأن سائر الذين جمعوا الحديث، وكثير من هذه الأحاديث التي صحت عندهم كانت موضع نقد وتمحيص عند غيرهم من العلماء انتهى بهم إلى نفي الكثير منها، كما كان الشأن في مسألة الغرانيق. فإذا كان ذلك شأن الحديث، وقد جهد فيه جامعوه الأولون ما جهدوا، فما بالك بما ورد في المتأخر من كتب السيرة؟ وكيف يستطاع الأخذ به دون التدقيق العلمي في تمحيصه؟!
أثر المنازعات السياسية الإسلامية
والواقع أن المنازعات السياسية التي حدثت بعد الصدر الأول من الإسلام أدت إلى اختلاق كثير من الروايات والأحاديث تأييدا لها. فلم يكن الحديث قد دون إلى عهد متأخر من عصر الأمويين. وقد أمر عمر بن عبد العزيز بجمعه، ثم لم يجمع إلا في عهد المأمون بعد أن أصبح «الحديث الصحيح في الحديث الكذب كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود.» على قول الدارقطني. لعل الحديث لم يجمع في الصدر الأول من الإسلام لما كان يروى عن النبي أنه قال: «لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن ومن كتب شيئا غير القرآن فليمحه.»
جمع الحديث
على أن أحاديث النبي كانت متداولة على الألسن من يومئذ، وكانت الروايات تختلف فيها. ولقد أراد عمر بن الخطاب أثناء خلافته أن يتدارك الحال في ذلك بأن يكتب السنن؛ فاستفتى أصحاب النبي في ذلك فأشاروا عليه بأن يكتبها. فطفق عمر يستخير الله شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له
5
فقال: «إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا.» وعدل عن كتابتها، وكتب في الأمصار عنها: «من كان عنده شيء فليمحه.» وظلت الأحاديث بعد ذلك تتوالد وتتداول، حتى جمع ما صح لدى الجامعين منها في عهد المأمون.
ناپیژندل شوی مخ