ووصل إلينا مصحف عثمان. وقد بلغت العناية بالمحافظة عليه أنا لا نكاد نجد - بل لا نجد - أي خلاف بين النسخ التي لا عداد لها، والمنتشرة في أنحاء العالم الإسلامي الفسيحة. ومع ما أدى إليه مقتل عثمان نفسه بعد ربع قرن من وفاة محمد، من قيام شيع مغضبة ثائرة زعزعت - ولا تزال تزعزع - وحدة العالم الإسلامي، فإن قرآنا واحدا قد ظل دائما قرآنها جميعا. وهذا الإسلام منها جميعا لكتاب واحد على اختلاف العصور حجة قاطعة على أن ما أمامنا اليوم إنما هو النص الذي جمع بأمر الخليفة السيئ الحظ. والأرجح أن العالم كله ليس فيه كتاب غير القرآن ظل ثلاثة عشر قرنا كاملا بنص هذا مبلغ صفائه ودقته. والقراءات المختلفة قليلة إلى حد يثير الدهشة، وهذا الاختلاف محصور أكثر أمره في نطق الحروف المتحركة أو في مواضع الوقف، وهذه مسائل أبدعت في تاريخ متأخر، فلا مساس لها بمصحف عثمان.
وحدة الإسلام في عهد عثمان
والآن وقد تبين أن القرآن الذي نتلو هو نص مصحف عثمان لم يتغير، فعلينا أن نبحث: أهذا النص هو صورة مضبوطة لما جمع زيد بعد الاتفاق على إزالة ما كان في التلاوة من أوجه خلاف قليلة العدد قليلة الخطر؟ وكل ما لدينا مقنع تمام الإقناع بأن الأمر كذلك. فليس في الأنباء القديمة أو الجديرة بالتصديق ما يلقي على عثمان أية شبهة بأنه قصد إلى تحريف القرآن لتأييد أغراضه. صحيح أن الشيعة ادعوا من بعد أنه أغفل بعض آيات تزكي عليا. لكن العقل لا يسوغ هذا الزعم؛ فلم يكن قد نجم أي خلاف بين الأمويين والعلويين حين أقر مصحف عثمان، بل كانت وحدة الإسلام قائمة حينذاك لا يهددها شيء. ثم إن عليا لم يكن قد صور مطالبه في صورتها الكاملة؛ فلم يكن غرض من الأغراض إذن ليدفع عثمان إلى ارتكاب إثم ينظر إليه المسلمون بعين المقت غاية المقت . ولقد كان عدد كبير ممن وعت قلوبهم القرآن كما سمعوه حين تلاه النبي أحياء حين جمع عثمان المصحف.
فلو أن آيات تزكي عليا كانت قد نزلت لوجدت نصوصها بين يدي أنصاره الكثيرين. وهذان السببان كانا كفيلين بالقضاء على كل محاولة لإغفال هذه الآيات.
يضاف إلى ذلك أن شيعة علي استقلوا بأمرهم بعد وفاة عثمان وبايعوا عليا بالخلافة. أفيقبل العقل أنهم - وقد وصلوا إلى السلطة - يرضون عن قرآن مبتور، ومبتور قصدا للقضاء على أغراض زعيمهم؟! مع ذلك ظلوا يتلون القرآن الذي يتلوه خصومهم، ولم يثيروا أي ظل من الاعتراض عليه؟ بل إن عليا كان قد أمر بأن تنشر نسخ كثيرة منه، ويقال إنه كتب بخط يده عددا منها. صحيح أن الثائرين قد جعلوا من أسباب انتقاضهم أن عثمان جمع القرآن وأمر بإهلاك ما سوى مصحفه من المصاحف واعتراضهم إنما ينصب على إجراءات عثمان لذاتها ويعتبرونها محرمة لا تجوز. لكن لم يشر أحد فيما وراء ذلك إلى تحريف في المصحف أو إبدال؛ فمثل هذا الزعم كان ظاهر الفساد يومئذ؛ وإنما أبدعه الشيعة من بعد لأغراضهم.
دقة مصحف عثمان وكماله
نستطيع أن نستنبط إذن مطمئنين أن مصحف عثمان كان - وما يزال - صورة مضبوطة لما جمعه زيد بن ثابت، مع مزيد في التوفيق بين الروايات السابقة له وبين لهجة قريش، ثم استبعاد سائر القراءات التي كانت منتشرة، في أنحاء المملكة. مع ذلك لا تزال أهم مسألة قائمة أمامنا؛ هذه المسألة هي: هل كان ما جمعه زيد صورة صادقة كاملة لما أوحي إلى محمد؟ والاعتبارات الآتية تبعث اليقين بأنه كان مجموعة صادقة بلغت من حيث إنها كاملة كل ما يمكن بلوغه يومئذ:
أولا:
تم الجمع الأول برعاية أبي بكر. وكان أبو بكر تابعا صادق الإخلاص لمحمد كما كان مؤمنا كامل الإيمان بالمصدر القدسي للقرآن؛ وكان اتصاله الحميم بالنبي خلال السنوات العشرين الأخيرة من حياته، ومظهره في الخلافة مظهر البساطة والحكمة والتنزه عن المطامع، بحيث لا تدع موضعا لأي فرض آخر. وكان إيمانه بأن ما يوحى إلى صاحبه إنما يوحى إليه من الله ذاته، مما يجعل أول أغراضه أن يكفل جمع هذا الوحي كله مطهرا كاملا. ومثل هذا القول يصدق على عمر، وقد تم الجمع في خلافته. وهذا القول يصدق كذلك على المسلمين يومئذ جميعا، لا تفاوت لديهم فيه بين الكاتبين الذين عاونوا على هذا الجمع وبين المؤمن الرقيق الحال الذي يحمل إلى زيد ما عنده من الوحي المكتوب على العظام أو على أوراق الشجر؛ فقد كانوا جميعا تتساوى رغبتهم الصادقة في استظهار العبارات والألفاظ التي تلاها عليهم نبيهم على أنها رسالة من عند الله. وقد كان الحرص على الدقة قائما بشعور الناس جميعا؛ لأنه لم ينغرس في نفوسهم شيء ما انغرس هذا التقديس المرهب لما يعتقدونه كلمة الله. وفي القرآن نذر للذين يفترون على الله الكذب أو يخفون شيئا من وحيه. ولسنا نستطيع أن نصدق أن يجرؤ المسلمون الأولون، في حماستهم الأولى لدينهم وتقديسهم إياه، على التفكير في أمر ذلك مبلغه من مجافاة الإيمان.
ثانيا:
ناپیژندل شوی مخ