215

حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل، وقالت فاطمة مثل هذا القول. وكان دفنه ليلة الأربعاء الرابع عشر من شهر ربيع الأول؛ أي بعد يومين من اختياره الرفيق الأعلى.

وظلت عائشة من بعد ذلك تعيش بمنزلها في الحجرة المجاورة لحجرة القبر سعيدة بهذا الجوار الكريم. ولما مات أبو بكر دفن إلى جوار النبي، كما دفن عمر إلى جواره من بعد. ويروى أن عائشة كانت تزور حجرة القبر سافرة إلى أن دفن عمر بها إذ لم يكن بها يومئذ غير أبيها وزوجها. فلما دفن عمر كانت لا تدخل إلا محتجبة لابسة كامل ثيابها.

ولم يكد المسلمون يفرغون من جهاز رسول الله ودفنه حتى أمر أبو بكر أن ينفذ جيش أسامة لغزو الشام تنفيذا لما كان قد أمر رسول الله به. وقد أبدى بعض المسلمين من الاعتراض على ذلك ما أبدوا أيام مرض النبي. وانضم عمر إلى المعترضين ورأى ألا يشتت المسلمون، وأن يحتفظ بهم في المدينة مخافة أمر قد يدعو إليهم. لكن أبا بكر لم يتردد لحظة في تنفيذ أمر الرسول، ورفض أن يستمع إلى قول الذين أشاروا بتعيين قائد أسن من أسامة وأكثر منه في الحرب دربة. وتجهز الجيش عند الجرف وأسامة على رأسه، وخرج أبو بكر يودعه. هنالك طلب إلى أسامة أن يعفي ابن الخطاب من الذهاب معه ليبقى بالمدينة يشير على أبي بكر. ولم تمض عشرون يوما على مسيرة الجيش حتى أغار المسلمون على البلقاء، وحتى انتقم أسامة للمسلمين ولأبيه الذي قتل بمؤتة أشد انتقام. وقد كانت صيحة الحرب في تلك الأيام المظفرة: «يا منصور أمت.» وكذلك نفذ أبو بكر ونفذ أسامة أمر النبي، وعاد بالجيش إلى المدينة ممتطيا الجواد الذي قتل أبوه بمؤتة عليه، يتقدمه اللواء الذي عقده رسول الله بيده.

ولما قبض النبي طلبت فاطمة ابنته إلى أبي بكر أن يرد عليها ما ترك من أرض بفدك وخيبر. لكن أبا بكر أجابها بقول أبيها: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة.» ثم قال لها: فأما إن كان أبوك قد وهب لك هذا المال فإني أقبل كلمتك في ذلك وأنفذ ما أمر به، وأجابت فاطمة بأن أباها لم يفض إليها بشيء من ذلك، وإنما أخبرتها أم أيمن بأن ذلك كان قصده. عند ذلك أصر أبو بكر على استبقاء فدك وخيبر وردهما إلى بيت مال المسلمين.

وكذلك خرج محمد من هذه الحياة الدنيا لم يترك شيئا من عرضها الزائل لأحد بعده؛ خرج منها كما دخل إليها وقد ترك فيها للناس هذا الدين القيم، ومهد فيها لهذه الحضارة الإسلامية الكبرى التي تفيأ العالم ظلالها من قبل وسيتفيأ ظلالها من بعد، وأقر فيها التوحيد، وجعل فيها كلمة الله العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وقضى فيها على الوثنية في كل صورها ومظاهرها القضاء المبرم، ودعا الناس فيها أن يتعاونوا على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وترك من بعده كتاب الله هدى للناس ورحمة، وكان فيها المثل الأسمى والأسوة الحسنة. وكان من آخر ما ضربه للناس من الأمثلة أن قال للناس يوم كلمهم أثناء مرضه: «أيها الناس من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد مني. ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه. ومن أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخش الشحناء فهي ليست من شأني.» وادعى عليه رجل ثلاثة دراهم فأعطاه عوضها. ثم ترك العالم بعد ذلك مخلفا هذا الميراث الروحي العظيم الذي لا يزال ينتشر في العالم حتى يتم الله كلمته، وينصر دينه على الدين كله ولو كره الكافرون.

صلى الله عليه وسلم.

خاتمة في مبحثين

(1) الحضارة الإسلامية كما صورها القرآن

خلف محمد هذا الميراث الروحي العظيم الذي أظل العالم ووجه حضارته خلال عدة قرون مضت، والذي سيظله من بعد ويوجه حضارته حتى يتم الله في العالم نوره. وإنما كان لهذا الميراث كل هذا الأثر فيما مضى، وسيكون له مثله وأكثر من بعد، لأنه أقام دين الحق ووضع أساس حضارة هي وحدها كفيلة بسعادة العالم. والدين والحضارة اللذان بلغهما محمد للناس بوحي ربه، يتزاوجان حتى لا انفصال بينهما. ولئن قامت هذه الحضارة الإسلامية على أساس من قواعد العلم وهدى العقل، واستندت في ذلك إلى ما تستند إليه الحضارة الغربية في عصرنا الحاضر؛ ولئن استند الإسلام من حيث هو دين إلى التفكير الذاتي، وإلى المنطق التجريدي (الميتافيزيقي)؛ إن الصلة مع ذلك وثيقة بين الدين ومقرراته والحضارة وأساسها؛ ذلك بأن الإسلام يربط بين التفكير المنطقي والشعور الذاتي، وبين قواعد العقل وهدى العلم، برابطة لا مفر لأهله من البحث عنها والاهتداء إليها ليظلوا مسلمين وطيدا إيمانهم. وحضارة الإسلام تختلف من هذه الناحية عن الحضارة الغربية المتحكمة اليوم في العالم، كما تختلف عنها في تصوير الحياة والأساس الذي يقوم هذا التصوير عليه. وهذا الاختلاف بين الواحدة والأخرى من هاتين الحضارتين جوهري إلى الحد الذي يجعل أساس كل واحدة منهما نقيض الأساس الذي تقوم عليه الأخرى.

يرجع هذا الاختلاف إلى أسباب تاريخية، أشرنا إليها في تقديم هذا الكتاب وفي تقديم طبعته الثانية. فقد أدى النزاع في الغرب المسيحي بين السلطتين الدينية والزمنية - وبعبارة هذا العصر: بين الكنيسة والدولة - إلى الفصل بينهما وإلى إقامة سلطان الدولة على إنكار سلطان الكنيسة. وكان لهذا التنازع على السلطان أثره في التفكير الغربي كله. وفي مقدمة النتائج التي ترتبت على هذا الأثر ما كان من تفريق بين الشعور الإنساني والعقل الإنساني، وبين منطق العقل المجرد ومقررات العلم الواقعي المستندة إلى الملاحظة المادية.

ناپیژندل شوی مخ