212

وكان عمر قد أنصت حين رأى انصراف الناس إلى أبي بكر، فلما سمع أبا بكر يتلو هذه الآية خر إلى الأرض ما تحمله رجلاه موقنا أن رسول الله قد مات. وأما الناس فقد أخذوا من قبل بأقوال عمر، حتى لقد ألفوا أنفسهم إذ سمعوا هذه الآية يتلوها أبو بكر وكأنهم لم يكونوا يعلمون أنها نزلت. وكذلك زايل القلوب كل شك في أن محمدا قد اختار جوار الرفيق الأعلى، وأن الله قد ضمه إليه.

أفكان عمر غاليا حين اقتنع بأن محمدا لم يمت، وحين دعا الناس إلى مثل اقتناعه؟ كلا! وإن العلماء ليحدثوننا اليوم بأن الشمس ستظل تتناثر على حقب الدهور حتى يجيء يوم تفنى فيه. أفيصدق أحد هذا الكلام من غير أن تساوره الشكوك في إمكانه؟ هذه الشمس التي ترسل من ضيائها ومن حرارتها ما يحيا العالم به، كيف تفنى وكيف تنطفئ ثم يبقى العالم بعدها يوما؟ ومحمد لم يكن أقل من الشمس ضياء، ولا حرارة، ولا قوة. وكما أن الشمس محسنة، فقد كان محمد محسنا. وكما أن الشمس تتصل بالكائنات كلها، فقد كان روح محمد متصل بالكائنات جميعا، وما زال ذكره

صلى الله عليه وسلم

يعطر الكون كله. فلا عجب إذا اقتنع عمر بأن محمدا لا يمكن أن يموت. وهو حقا لم يمت ولن يموت.

وكان أسامة بن زيد قد رأى النبي صباح ذلك اليوم حين خرج إلى المسجد، وظن كما ظن المسلمون جميعا أنه تعافى، فذهب ومن كان قد عاد إلى المدينة من الجيش المسافر إلى الشام ولحق بالمعسكر بالجرف، وأمر الجيش بالتجهز للمسير. وإنه لكذلك إذ لحق به الناعي نذيرا بوفاة النبي، فعاد أدراجه وأمر الجيش فرجع كله إلى المدينة؛ ثم ذهب هو فركز علمه عند باب عائشة، وانتظر ما سيكون من أمر المسلمين من بعد.

وفي الحق أن المسلمين كانوا من أمرهم في حيرة. فهم لم يلبثوا حين سمعوا أبا بكر وحين أيقنوا أن محمدا قد مات، أن تفرقوا، فانحاز حي من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، واعتزل علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة، وانحاز المهاجرون ومعهم أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل إلى أبي بكر. وإن أبا بكر وعمر لكذلك إذ أتى آت ينبئهما بنبأ الأنصار الذين انحازوا إلى سعد بن عبادة، ثم يردف النبأ بقوله: فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا الناس قبل أن يتفاقم أمرهم، ورسول الله

صلى الله عليه وسلم

في بيته لم يفرغ من أمره قد أغلق دونه الباب أهله. قال عمر موجها حديثه إلى أبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار حتى ننظر ما هم عليه. وإنهم لفي طريقهم إذ لقيهم من الأنصار رجلان صالحان، فذكرا للمهاجرين ما تمالأ عليه القوم وسألاهم: أين يريدون؟ فلما علما أنهم يريدون الأنصار قالا: لا عليكم ألا تقربوهم؛ يا معشر المهاجرين اقضوا أمركم. قال عمر: والله لنأتينهم. وانطلقوا حتى نزلوا بهم في سقيفة بني ساعدة فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل. قال عمر بن الخطاب: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة، به وجع. فلما جلس المهاجرون قام خطيب الأنصار فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط منا وقد دفت دافة من قومكم وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا ويغصبونا الأمر.

وكانت هذه روح الأنصار أثناء حياة النبي، لذلك لم يكد عمر يسمع هذا الكلام حتى أراد أن يدفعه: فأمسك به أبو بكر مخافة شدته وقال: على رسلك يا عمر! ثم قال موجها كلامه للأنصار: «أيها الناس! نحن المهاجرين أول الناس إسلاما، وأكرمهم أحسابا، وأوسطهم دارا، وأحسنهم وجوها، وأكثرهم ولادة في العرب، وأمسهم رحما برسول الله: أسلمنا قبلكم، وقدمنا في القرآن عليكم، فقال تبارك وتعالى:

والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان .

ناپیژندل شوی مخ