ولما أتم النبي خطابه نزل عن ناقته القصواء، وأقام حتى صلى الظهر والعصر ثم ركبها حتى الصخرات؛ وهناك تلا عليه السلام على الناس قول الله تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .
9
فلما سمعها أبو بكر بكى أن أحس أن النبي وقد تمت رسالته قد دنا يومه الذي يلقى فيه ربه.
وترك النبي عرفات وقضى ليله بالمزدلفة، ثم قام في الصباح فنزل بالمشعر الحرام؛ ثم ذهب إلى منى وألقى في طريقه إليها الجمرات؛ حتى إذا بلغ خيامه نحر ثلاثا وستين ناقة، واحدة عن كل سنة من سني حياته، ونحر علي ما بقي من الهدي المائة التي ساق النبي منذ خروجه من المدينة. ثم حلق النبي رأسه وأتم حجه. أتم هذا الحج الذي يسميه بعضهم حجة الوداع، وآخرون حجة البلاغ، وغيرهم حجة الإسلام. وهي في الحق ذلك كله؛ فقد كانت حجة الوداع، رأى فيها محمد مكة والبيت الحرام للمرة الأخيرة. وكانت حجة الإسلام، أكمل الله فيها للناس دينه وأتم عليهم نعمته. وكانت حجة البلاغ، أتم النبي فيها بلاغه للناس ما أمره الله ببلاغه. وما محمد إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون.
الفصل الثلاثون
مرض النبي ووفاته
(تفكيره في غزو الروم - جيش أسامة - بدء مرض النبي - ذهابه إلى مقابر المسلمين وصلاته على أهل أحد - شكواه من وجع رأسه - الحمى - أمره أبا بكر أن يصلي بالناس - صحو الموت - اختيار الرفيق الأعلى) ***
تمت حجة الوداع وآن لعشرات الألوف ممن صحبوا النبي فيها أن يعودوا إلى ديارهم، فأنجد منهم أهل نجد، وأتهم أهل تهامة، وانحدر إلى الجنوب أهل اليمن وحضرموت وما حاذاها. وسار النبي وأصحابه ميممين المدينة حتى إذا بلغوها أقاموا بها في أمن من شبه الجزيرة كلها، وفي تفكير متصل من جانب محمد في أمر البلاد الخاضعة للروم والفرس بالشام ومصر والعراق. فهو قد أمن من ناحية شبه جزيرة العرب جمعاء بعد أن دخل الناس في دين الله أفواجا، وبعد أن جعلت الوفود تقبل تترى إلى يثرب تعلن الطاعة وتتفيأ ظلالها تحت لواء الإسلام، بعد أن انحاز العرب جميعا إليه في حجة الوداع. وكيف لا يخلص ملوك العرب في ولائهم للنبي ولدينه ولم يبق لهم أحد ما أبقاه لهم النبي الأمي من سلطان واستقلال ذاتي. أولم يبق بدهان عامل فارس على أرض اليمن في ملكه حين أعلن بدهان إسلامه وحرص على وحدة العرب وألقى نير المجوس؟ ولم يكن ما يقوم به بعضهم في أنحاء من شبه الجزيرة من حركات تشبه الانتقاض ليستغرق من النبي شيئا من التفكير أو ليثير في نفسه شيئا من المخاوف، بعد أن انبسط سلطان الدين الجديد على كل الأنحاء، وعنت الوجوه للحي القيوم، وآمنت القلوب بالله الواحد القهار.
لذلك لم يثر قيام الذين قاموا إذ ذاك يدعون النبوة عناية محمد ولا اهتمامه. صحيح أن بعض القبائل القاصية عن مكة كانت تسرع، بعد الذي عرفت عن محمد ونجاح دعوته، إلى الاستماع لمدعي النبوة من أهل قبيلتهم، وتود لو يكون لها من الحظ ما أوتيت قريش، وأن هذه القبائل كانت لبعدها عن مقر الدين الجديد لا تعرف كل أمره، لكن الدعوة الحق إلى الله كانت قد تأصلت في بلاد العرب، فلم تكن مقاومتها أمرا يسيرا. وما لاقى محمد في سبيل هذه الدعوة كان قد انتشر في الآفاق خبره، ولم يكن مستطاعا لغير ابن عبد الله احتماله. وكل ادعاء أساسه البهتان لا مفر أن ينكشف سريعا بهتانه. فكل ادعاء للنبوة لم يكن مقدرا له أي نجاح ذي بال. قام طليحة - زعيم بني أسد وأحد أشاوس العرب في الحرب ومن ذوي السلطان بنجد - وزعم أنه نبي ورسول، وأيد زعمه بالتنبؤ بموقع الماء في يوم كان قومه فيه يسيرون ويكاد الظمأ يقتلهم. لكنه بقي خائفا من الانتقاض على محمد طوال حياة محمد، ولم يعلن الثورة إلا بعد أن قبض الله إليه رسوله.
ناپیژندل شوی مخ