ويجمل بنا لبيان ذلك أن نسأل عن الأساس المعنوي للحضارة الحاكمة اليوم، ثم نقيس به هذا الأساس المعنوي الذي دعا محمد إليه. فالأساس المعنوي للحضارة الحاكمة اليوم هو حرية الرأي حرية لا حد لها، ولا حد للتعبير عنها إلا بالقانون، وحرية الرأي هذه هي لذلك عقيدة يدافع الناس عنها ويضحون في سبيلها ويجاهدون لتحقيقها ويحاربون من أجلها، ويعتبرون ذلك كله آية من آيات المجد التي يفاخرون بها الأجيال ويتباهون بها على ما سبقهم من العصور. ومن أجل ذلك يقول المستشرقون الذين أشرنا إليهم: إن دعوة الإسلام لمقاتلة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر دعوة إلى التعصب تتنافى وهذه الحرية. وهذه مغالطة مفضوحة إذا عرفت أن قيمة الرأي الدعوة له والعمل به. والإسلام لم يدع إلى مناوأة المشركين من أهل الجزيرة، إذا هم أذعنوا ولم يدعوا إلى شركهم ولم يعملوا به ويقيموا عبادته. والحضارة الحاكمة اليوم تحارب الآراء التي تناقض مواضع العقيدة منها بأشد مما كان يحارب المسلمون المشركين، وتفرض على من يعتبر كتابيا بالنسبة لهذه الحضارة الحاكمة ما هو شر من الجزية ألف مرة.
ولسنا نضرب المثل لذلك بما كان حين محاربة تجارة الرقيق، وإن آمن الذين كانوا يقومون بهذه التجارة بأنها غير محرمة. لا نضرب لهذا المثل حتى لا يقال: إننا لا نستنكر هذه التجارة وإن كان الإسلام لم يدع إلى أكثر من محاربة ما يستنكر. لكن أوروبا اليوم، أوروبا صاحبة الحضارة الحاكمة تؤيدها أمريكا وتعززها قوات الجنوب في آسيا والشرق الأقصى منها، قد حاربت البلشفية، وهي مستعدة لمحاربتها أشد الحرب. ونحن في مصر مستعدون للاشتراك مع الحضارة الحاكمة لمحاربة البلشفية. والبلشفية ليست مع ذلك إلا رأيا في الاقتصاد يحارب الرأي الذي تدين به الحضارة الحاكمة اليوم. أفتكون دعوة الإسلام إلى محاربة المشركين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه دعوة وحشية إلى التعصب وضد الحرية، وتكون الدعوة إلى محاربة البلشفية الهادمة للنظام الاجتماعي في الحضارة الحاكمة دعوة إلى الحرية في العقيدة والرأي وإلى احترامها؟!
ثم إن قوما رأوا في غير بلد من بلاد أوروبا أن التهذيب النفسي يجب أن يتصل به التهذيب الجسمي، وأن ما تواضع الناس عليه من ستر الجسم كله أو بعض أعضائه أشد إثارة للمعاني الجنسية في النفس، وأشد لذلك إفسادا للخلق من أن يسير الناس وكلهم عريان. وبدأ أصحاب هذا الرأي ينفذونه وأقاموا محلات العري في بعض المدن، وأقاموا أماكن يغشاها من شاء للتدرب على هذا التهذيب الجسمي. لكن هذا الرأي ما بدأ ينتشر حتى رأى القائمون بالأمر في كثير من البلاد أن في انتشار مظاهره إفسادا للتهذيب الخلقي يضر بالجماعة؛ فحرموا «محلات العري» وحاربوا القائمين بالرأي. ونهوا بالقانون عن إنشاء أماكن هذا التهذيب الجسمي. وما نشك في أن هذا الرأي، لو انتشر في أمة بأسرها لكان سببا لإعلان الحرب عليها من أمم أخرى على أنه مفسدة للحياة المعنوية في الإنسان، كما أثيرت حروب بسبب الرقيق، وكما تثار حروب أو ما يشبهها بسبب تجارة الرقيق الأبيض وبسبب الاتجار بالمخدرات. لماذا ذلك كله؟ لأن حرية الرأي على إطلاقها يمكن أن تحتمل ما بقيت حبيسة في حدود القول الذي لا يتصل منه بالجماعة ضر أو أذى. فإذا أوشك هذا الرأي أن يثير في الجماعة الإنسانية الفساد فقد وجبت محاربة هذه الثائرات، ووجبت محاربة مظاهر الرأي جميعا، بل وجبت محاربة الرأي نفسه، وإن اختلفت مظاهر هذه الحرب بمقدار ما يترتب على هذه المظاهر من فساد في الجماعة يخشى منه على قوامها الخلقي أو الاجتماعي أو الاقتصادي.
هذه هي الحقيقة الاجتماعية المعترف بها والمقررة لدى الحضارة الحاكمة اليوم. ولو أردنا أن نستقصي مظاهر ذلك وآثاره في مختلف الشعوب لطال بنا البحث. وليس ها هنا موضعه. على أنك تستطيع أن تقول إن كل تشريع يراد به قمع أية حركة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية إنما هو حرب للرأي الذي تصدر عنه هذه الحركة. وهذه الحرب تجد ما يسوغها في مبلغ ما يصيب الجماعة الإنسانية من ضرر إذا نفذت الآراء تشب الحرب عليها. فإذا أردنا أن نقدر دعوة الإسلام إلى مقاتلة الشرك وأهله وحربهم حتى يذعنوا، وهل هذه الحرب مسوغة أو غير مسوغة، وجب أن ننظر فيما تمثله فكرة الشرك هذه وما تدعو إليه. فإن اتفقت الكلمة على فادح ضررها بالجماعة الإنسانية في مختلف عصورها كان لإعلان الإسلام الحرب عليها ما يسوغه بل ما يوجبه.
والشرك الذي كان موجودا حين قيام محمد - عليه السلام - بالدعوة إلى دين الله الحق لم يكن يمثل عبادة الأصنام وكفى، ولو أنه كان كذلك لوجبت محاربته؛ فمن الازدراء للعقل الإنساني وللكرامة الإنسانية أن يعبد الإنسان حجرا. ولكن هذا الشرك كان يمثل مجموعة من التقاليد والعقائد والعادات، بل كان يمثل نظاما اجتماعيا هو شر من الرق وشر من البلشفية وشر من كل ما يتصور العقل في هذا القرن المتم للعشرين. كان يمثل وأد البنات، وتعدد الزوجات إلى غير حد، حتى ليحل للزوج أن يتزوج ثلاثين وأربعين ومائة وثلاثمائة امرأة وأكثر من ذلك. وكان يمثل الربا في أفحش ما يستطيع الإنسان أن يتصور الربا. وكان يمثل الإباحية الخلقية في أسفل صورها، وكانت جماعة الوثنيين العرب شر جماعة أخرجت للناس. ونود من كل منصف أن يجيب على هذا السؤال: لو أن جماعة من الناس وضعت لنفسها اليوم نظاما فيه من العقائد والعادات وأد البنات، وتعدد الزوجات وإباحة الرق لسبب أو لغير سبب، واستغلال الأموال استغلالا فاحشا، ثم قامت ثورة على ذلك كله تحاول تحطيمه والقضاء عليه. أتتهم هذه الثورة بالتعصب وبالعمل ضد حرية الرأي؟!
وإذا افترضنا أن أمة اطمأنت إلى هذا النظام الاجتماعي المنحط وأوشكت العدوى أن تنتقل منها إلى غيرها من الدول فآذنتها هذه الدول بحرب، أتكون الحرب مسوغة أم غير مسوغة؟! أولا تكون مسوغة أكثر من الحرب الكبرى الأخيرة التي طاحت بملايين من أهل هذا العالم لغير سبب إلا الشره والجشع من جانب دول الاستعمار؟! وإذا كان ذلك شأنها فما عسى أن تكون قيمة نقد المستشرقين للآيات التي تلاها القارئ من سورة براءة، ولدعوة الإسلام إلى حرب الشرك وأهله ممن يدعون إلى إقامة نظام فيه ما ذكرنا وشر مما ذكرنا؟!
وإذا كانت هذه هي الحقيقة التاريخية في شأن هذا النظام الذي كان قائما في بلاد العرب يظله علم الشرك والوثنية، فهناك أيضا حقيقة تاريخية أخرى مستمدة من حياة الرسول. فهو قد أنفق منذ بعثه الله برسالته ثلاثة عشرة سنة حسوما يدعو الناس فيها إلى دين الله بالحجة ويجادلهم بالتي هي أحسن. وهو فيما قام به من غزوات لم يكن معتديا قط، وإنما كان مدافعا عن المسلمين دائما، مدافعا عن حريتهم في الدعوة إلى دينهم الذي يؤمنون به ويضحون بحياتهم في سبيله. هذه الدعوة القوية إلى قتال المشركين على أنهم نجس، وأنهم لا عهد لهم ولا ميثاق، وأنهم لا يرعون في مؤمن إلا ولا ذمة، وإنما نزلت بعد آخر غزوة غزا النبي: تبوك. فإذا حل الإسلام ببلاد تفشى فيها الشرك وحاول أن يقيم فيها هذا النظام الاجتماعي والاقتصادي الهدام الذي كان قائما في شبه الجزيرة حين بعث النبي، فدعا المسلمون أهلها إلى ترك هذا النظام، وإلى الأخذ بما أحل الله وتحريم ما حرم فلم يذعنوا، فليس من منصف إلا يقول بالثورة عليهم، وبقتالهم حتى تتم كلمة الحق، وحتى يكون الدين كله لله.
ولقد أثمر هذا الذي تلا علي من «براءة» وما نادى في الناس بألا يدخل الجنة كافر، وبألا يحج بعد العام مشرك، وبألا يطوف بالبيت عريان، خير الثمرات، وأزال كل تردد من نفوس القبائل التي كانت ما تزال متباطئة في تلبية دعوة الإسلام.
وبذلك دخلت في الإسلام بلاد اليمن ومهرة والبحرين واليمامة، ولم يبق من يناوئ محمدا إلا عددا قليلا أخذتهم العزة بالإثم وغرهم بالله الغرور. من هؤلاء عامر بن الطفيل الذي ذهب مع وفد بني عامر ليستظلوا براية الإسلام؛ فلما كانوا عند النبي امتنع عامر ولم يسلم، وأراد أن يكون للنبي ندا. وأراد النبي أن يقنعه كيما يسلم، فأصر على إبائه، ثم خرج وهو يقول: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا. قال محمد: اللهم اكفني عامر بن الطفيل! وانصرف عامر يريد قومه، وإنه لفي بعض الطريق إذ أصابه الطاعون في عنقه وقضى عليه وهو في بيت امرأة من بني سلول؛ قضي عليه وهو يردد: «يا بني عامر! أغدة كغدة البعير وموتة في بيت سلولية؟!»
أما أربد بن قيس فقد أبى أن يسلم وعاد إلى بني عامر ولم يطل به المقام بل أحرقته صاعقة حين خرج على جمل له يبيعه. ولم يمنع إباء عامر وأربد قومهما من أن يسلموا. ومن هؤلاء بل هو شر منهم مكانا مسيلمة بن حبيب؛ فقد جاء في وفد بني حنيفة من أهل اليمامة وخلفه القوم على رحالهم وذهبوا إلى رسول الله فأسلموا وأعطاهم النبي، فذكروا له مسيلمة، فأمر له بمثل ما أمر للقوم، وقال: أما إنه ليس بشركم مكانا؛ وذلك لحفظه رحال أصحابه. فلما سمع مسيلمة قولهم ادعى النبوة، وزعم أن الله أشركه مع محمد في الرسالة، وجعل يسجع لقومه ويقول لهم فيما يقول محاولا مضاهاة القرآن: «لقد أنعم الله على الحبلى. أخرج منها نسمة تسعى. من بين صفاق وحشا.» وأحل مسيلمة الخمر والزنا، ووضع عن قومه الصلاة، وانطلق يدعو الناس إلى تصديقه. فأما من عدا هؤلاء من العرب فأقبلوا يدخلون في دين الله أفواجا من أطراف شبه الجزيرة، وعلى رأسهم رجال من أعز الرجال من أمثال عدي بن حاتم وعمر بن معدي كرب. وبعث ملوك حمير رسولا بكتاب منهم إلى النبي يعلنون فيه إسلامهم فأقرهم عليه وكتب إليهم بما لهم وما عليهم في شرع الله. فلما انتشر الإسلام في جنوب شبه الجزيرة، بعث محمد من السابقين إلى الإسلام من يفقههم في دينهم ويثبتهم فيه.
ناپیژندل شوی مخ