196

ومن حسن صنيع القدر أن كانت الطائف - التي قاومت النبي في أثناء حصارها ما قاومت حتى انصرف المسلمون عنها دون اقتحامها - هي أول من أسرع إلى إعلان الطاعة بعد تبوك، وإن ترددت طويلا في إعلان هذه الطاعة. فقد كان عروة بن مسعود - أحد سادة ثقيف المقيمين بالطائف - غائبا باليمن في أثناء غزو النبي بلاده بعد موقعة حنين. فلما عاد إلى موطنه ورأى النبي انتصر في تبوك وعاد إلى المدينة، أسرع إليه يعلن إسلامه وحرصه على دعوة قومه للدخول في دين الله. ولم يكن عروة ليجهل محمدا وعظم أمره، وقد كان أحد الذين فاوضوه عن قريش في صلح الحديبية. وعرف النبي بعد إسلام عروة اعتزامه الذهاب إلى قومه يدعوهم إلى الدين الذي دخل فيه، وكان النبي يعرف من تعصب ثقيف لصنمها اللات ومن نخوتها وشدتها ما جعله يحذر عروة ويقول له: إنهم قاتلوك، لكن عروة اعتز بمكانه من قومه فقال: يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبصارهم.

وذهب عروة فدعا قومه إلى الإسلام؛ فتشاوروا فيما بينهم ولم يبدوا له رأيا. فلما كان الصباح قام على علية له ينادي إلى الصلاة. هنالك صدقت فراسة الرسول، فلم يطق قومه صبرا، فأحاطوا به ورموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم قاتل. واضطرب من حول عروة أهله، فقال وهو يسلم الروح: «كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلي. فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله

صلى الله عليه وسلم

قبل أن يرتحل عنكم.» ثم طلب أن يدفن مع الشهداء فدفنه أهله معهم.

ولم يذهب دم عروة هدرا، فإن القبائل التي تحيط بالطائف كانت قد أسلمت كلها، ولذلك رأت فيما صنعت ثقيف بسيد من ساداتها إثما منكرا. ورأت ثقيف من أثر ذلك أنهم صاروا لا يأمن لهم سرب. ولا يخرج منهم رجل إلا اقتطع، وأيقنوا أنهم إن لم يجدوا سبيلا إلى صلح أو هدنة مع المسلمين فمصيرهم لا ريب إلى الفناء. وأتمر القوم فيما بينهم، وتحدثوا إلى كبير منهم (عبد ياليل)، كي يذهب إلى النبي يعرض عليه صلح ثقيف معه. وخشي عبد ياليل أن يصيبه من قومه ما أصاب عروة بن مسعود، فلم يقبل أن يخرج إلى محمد حتى أوفدوا معه خمسة آخرين، اطمأن إلى أنه إذا خرج معهم ثم عادوا شغل كل رجل منهم رهطه. ولقي المغيرة بن شعبة القوم حين دنوا من المدينة، فأسرع يريد أن يخبر النبي خبرهم. ولقيه أبو بكر يشتد في السير؛ فلما عرف منه ما جاء فيه طلب إليه أن يدع له هذه البشرى يزفها إلى رسول الله، ودخل أبو بكر فأخبر النبي بقدوم وفد ثقيف.

وكان هذا الوفد ما يزال يعتز بقومه، وما يزال يذكر حصار النبي للطائف وانصرافه عنها. فمع ما علمهم المغيرة كيف يحيون النبي بتحية الإسلام لم يرضوا حين قابلوه إلا أن يحيوه بتحية الجاهلية، ثم إنهم ضربت لهم قبة خاصة في ناحية من المسجد أقاموا بها يصرون على الحذر من المسلمين وعدم الطمأنينة إليهم. وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله في مفاوضتهم إياه؛ فكانوا لا يطعمون طعاما يأتيهم من عند النبي حتى يأكل منه خالد. وقام هذا بالسفارة، فأبلغ محمدا أنهم مع استعدادهم للإسلام، يطلبون إليه أن يدع لهم صنمهم اللات ثلاث سنين لا يهدمها، وأن يعفيهم من الصلاة.

وأبى محمد عليهم ما طلبوا من ذلك أشد إباء. ولقد نزلوا يطلبون أن يدع اللات سنتين، ثم أن يدعها سنة، ثم أن يدعها شهرا واحدا بعد انصرافهم إلى قومهم، لكن إباءه ذلك كان حاسما لا تردد فيه ولا هوادة. وكيف تريد من نبي يدعو إلى دين الله الواحد القهار ويهدم الأصنام فلا يذر منها باقية، أن يتهاون في أمر صنم منها، وإن كان لقومه من المنعة ما كان لثقيف بالطائف؟! فالإنسان إما أن يؤمن، وإما ألا يؤمن، وليس بين الطرفين إلا الارتياب والشك. والشك والإيمان لا يجتمعان في قلب كما لا يجتمع الإيمان والكفر. وبقاء اللات طاغية ثقيف علم على أنهم لا يزالون يداولون عبادتهم بينها وبين الله جل شأنه. وهذا إشراك بالله، والله لا يغفر أن يشرك به.

وطلبت ثقيف إعفاءها من الصلاة؛ فرفض محمد قائلا: إنه لا خير في دين لا صلاة فيه. ونزل الثقفيون عن بقاء اللات وقبلوا الإسلام وإقامة الصلاة، لكنهم طلبوا ألا يكسروا أوثانهم بأيديهم. إنهم حديثو عهد بإيمان، وقومهم ما يزالون في انتظارهم ليروا ما صنعوا، فليجنبهم محمد تحطيم ما كانوا يعبدون وما كان يعبد آباؤهم، ولم ير محمد أن يشتد في هذه، فسيان أن يكسر الثقفيون الصنم وأن يكسره غيرهم؛ فهو سيهدم، وستقوم في ثقيف عبادة الله وحده. قال عليه السلام: أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، ثم أمر عليهم عثمان بن أبي العاص وكان من أحدثهم سنا. أمره عليهم على حداثة سنه؛ لأنه كان أحرصهم على الفقه في الإسلام وتعلم القرآن، بشهادة أبي بكر والسابقين إلى الإسلام. وأقام القوم مع محمد ما بقي من رمضان، وصاموا وإياه وهو يبعث لهم بفطورهم وسحورهم. فلما آن لهم أن ينصرفوا إلى قومهم أوصى محمد عثمان بن أبي العاص قائلا: «تجاوز في الصلاة واقدر الناس بأضعفهم، فإن فيهم الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة.»

وعاد القوم إلى بلادهم، فوجه النبي معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة، وكانت لهما بثقيف مودة وحرمة، ليقوما بهدم اللات. وقدم أبو سفيان والمغيرة لهدم الصنم، فهدمه المغيرة ونساء ثقيف حسرا يبكين، ولا يجرؤ أحد أن يقترب منه بعد الذي كان من اتفاق وفد ثقيف والنبي على هدمه. وأخذ المغيرة مال اللات وحليها فقضى منه، بأمر الرسول وبالاتفاق مع أبي سفيان، دينا كان على عروة والأسود. وبهدم اللات وبإسلام الطائف كانت الحجاز كلها قد أسلمت، وكانت سطوة محمد قد امتدت من بلاد الروم في الشمال إلى بلاد اليمن وحضرموت في الجنوب. وكانت هذه البلاد الباقية في جنوب شبه الجزيرة تتهيأ كلها لتنضم إلى الدين الجديد، ولتقف على الدفاع عنه وعن وطنها كل قوتها. وكانت وفودها تسير لذلك من جهات مختلفة، قاصدة كلها إلى المدينة لتعلن الطاعة ولتدين بالإسلام.

بينما كانت الوفود تقبل تترى إلى المدينة، كانت الأشهر يتلو أحدها الآخر حتى اقترب موعد الحج، ولم يكن النبي - عليه السلام - أدى الفريضة على تمامها يومئذ كما يؤديها المسلمون اليوم، أفتراه يخرج في عامه هذا شكرا لله على ما نصره على الروم، وما أدخل الطائف في حظيرة الإسلام، وما جعل الوفود تجيء إليه من كل فج عميق؟ إن شبه الجزيرة ما يزال بها من لم يؤمن بالله ورسوله، ما يزال بها الكفار وما يزال بها اليهود والنصارى. والكفار على عهدهم في الجاهلية ما يزالون يحجون إلى الكعبة في الأشهر الحرم. والكفار نجس. فليبق إذن بالمدينة حتى يتم الله كلمته وحتى يأذن الله له بالحج إلى بيته، وليخرج أبو بكر في الناس حاجا.

ناپیژندل شوی مخ