3
ثم إن نساء النبي كن يأتمرن به. فقد كان إذا صلى العصر دار على نسائه فيدنو منهن. فدخل على حفصة في رواية، وعلى زينب بنت جحش في رواية، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فأحدث ذلك الغيرة في نفوس سائر نسائه. وقالت عائشة: «فتواطأت أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها النبي
صلى الله عليه وسلم
فلتقل إني أجد ريح مغافير. أكلت مغافير» (والمغافير شيء حلو له ريح كريهة؛ وكان النبي لا يحب الرائحة الكريهة) فدخل على إحداهما فقالت له ذلك. فقال: بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له. وروت سودة، وكانت تواطأت على مثل ذلك مع عائشة، أن النبي لما دنا منها قالت له: أكلت مغافير؟ قال: لا. قالت: فما هذه الريح؟ قال: سقتني حفصة شربة من عسل. قالت: جرست نحله العرفط.
4
ودخل على عائشة فقالت له ما قالت سودة، ثم دخل على صفية فقالت له مثل قولهما، فحرمه على نفسه. فلما فعل قالت سودة: سبحان الله! والله لقد حرمناه. فنظرت إليها عائشة نظرة ذات مغزى وقالت لها: اسكتي.
طبيعي وقد جعل النبي لأزواجه هذه المكانة، بعد أن كن كغيرهن من نساء العرب لا رأي لهن، أن يتغالين في الاستمتاع بحرية لم يكن لمثيلاتهن بها عهد، وأن تبلغ إحداهن من مراجعة النبي أن يظل يومه غضبان. وكم أعرض عنهن وكم هجر بعضهن حتى لا يدفعهن رفقه بهن إلى مزيد من غلوهن؛ وأن تخرج بإحداهن الغيرة إلى غير لائق بالسداد. فلما ولدت مارية إبراهيم خرجت الغيرة بأزواج النبي عما أدبهن به، حتى كان هذا الحديث بينه وبين عائشة إذ تنكر عليه كل شبه بين إبراهيم وبينه، ولتكاد تتهم مارية بما يعرف النبي براءتها منه .
وحدث أن كانت حفصة يوما قد ذهبت إلى أبيها فتحدثت عنده. وجاءت مارية إلى النبي وهو في دار حفصة وأقامت بها زمنا معه. وعادت حفصة فوجدتها في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها وهي أشد ما تكون غيرة، وجعلت كلما طال بها الانتظار تزداد الغيرة بها شدة. فلما خرجت مارية ودخلت حفصة على النبي، قالت له: «لقد رأيت من كان عندك. والله لقد سببتني. وما كنت لتصنعها لولا هواني عليك.» وأدرك محمد أن الغيرة قد تدفع حفصة إلى إذاعة ما رأت والتحدث به إلى عائشة أو إلى غيرها من أزواجه، فأراد إرضاءها بأن حلف لها أن مارية عليه حرام إذا هي لم تذكر مما رأت شيئا. ووعدته حفصة أن تفعل. لكن الغيرة أكلت صدرها فلم تطق كتمان ما به، فأسرته إلى عائشة. وأومأت هذه إلى النبي بما رأى منه أن حفصة لم تصن سره. ولعل الأمر لم يقف عند حفصة وعائشة من أزواج النبي. ولعلهن جميعا وقد رأين ما رفع النبي من مكانة مارية قد تابعن عائشة وحفصة حين ظاهرتا على النبي على أثر قصة مارية هذه، وإن تكن لذاتها قصة لا شيء فيها أكثر مما يقع بين رجل وزوجه، أو بين رجل وما ملكت يمينه، مما هو حل له ومما لا موضع فيه لهذه الضجة التي أثارتها ابنتا أبي بكر وعمر محاولتين أن تقتصا لذاتيهما من ميل النبي لمارية. وقد رأينا أن شيئا من الجفوة وقع بين النبي وأزواجه في أوقات مختلفة بسبب النفقة، أو بسبب عسل زينب، أو لغير ذلك من الأسباب التي تدل على أن أزواج النبي كن يجدن عليه أن يكون لعائشة أحب، أو أن يكون لمارية أهوى.
وبلغ من أمرهن أن أوفدن إليه يوما زينب بنت جحش وهو عند عائشة تصارحه بأنه لا يعدل بين نسائه، وأنه لحبه لعائشة يظلمهن. ألم يجعل لكل امرأة يوما وليلة؟! ثم رأت سودة انصراف النبي عنها وعدم بشاشته لها، فوهبت يومها وليلتها لعائشة إرضاء للرسول. ولم تقف زينب من سفارتها عند الكلام في ميل النبي عن العدل بين نسائه؛ بل نالت من عائشة وهي جالسة بما جعل عائشة تتحفز للرد عليها لولا إشارات من النبي كانت تهدئ من حدتها. غير أن زينب اندفعت ولج بها الاندفاع وبالغت في النيل من عائشة، حتى لم يبق للنبي بد من أن يدع لحميرائه أن تدافع عن نفسها. وتكلمت عائشة بما أفحم زينب وسر النبي ودعاه إلى الإعجاب بابنة أبي بكر.
وبلغت منازعات أمهات المؤمنين في بعض الأحايين، بسبب إيثاره بعضهن بالمحبة على بعض، حدا هم النبي معه أن يطلق بعضهن لولا أنهن جعلنه في حل أن يؤثر من يشاء منهن على من يشاء. فلما ولدت مارية إبراهيم لجت بهن الغيرة أعظم لجاج، وكانت بعائشة ألج. ومد لهن في لجاج الغيرة بهن هذا الرفق الذي كان محمد يعاملهن به، وهذه المكانة التي رفعهن إليها. ومحمد ليس خليا فيشغل وقته بهذا اللجاج ويدع نفسه لعبث نسائه، فلا بد من درس فيه حزم وفيه صرامة يرد الأمور بين أزواجه إلى نصابها. ويدع له طمأنينة التفكير فيما فرض الله عليه من الدعوة إلى رسالته. وليكن هذا الدرس هجرهن والتهديد بفراقهن؛ فإن ثبن إلى رشادهن فذاك، وإلا متعهن وسرحهن سراحا جميلا.
ناپیژندل شوی مخ