181

3

على أن المسلمين لم يحرزوا هذا النصر المؤزر رخيصا، بل دفعوا ثمنا غاليا لعلهم لم يكونوا يدفعونه لولا تخاذلهم الأول وتدافعهم مهزومين، ليقول فيهم أبو سفيان: إنهم لا يردهم إلا البحر. دفعوا الثمن غاليا من مهج الرجال وأرواح الأبطال الذين استشهدوا في الموقعة. ولئن لم تحص كتب السيرة كل القتلى، لقد ذكرت أن قبيلتين من المسلمين فنيتا أو كادتا، وأن النبي صلى على أرواحهم رجاء أن يدخلهم الله الجنة. لكنه كان النصر على كل حال: النصر التام تغلب فيه المسلمون على خصومهم وغنموا منهم وأسروا ما لم يغنموا ولم يأسروا من قبل. والنصر هو كل شيء في النضال أيا كان الثمن الذي يدفع فيه ما دام نصرا شريفا. لذلك اغتبط المسلمون بما جزاهم الله، وظلوا يرتقبون قسمة الفيء والعود بالغنيمة.

لكن محمدا كان يريده نصرا أكثر روعة وأعظم جلالا. وإذا كان مالك بن عوف هو الذي قاد هذه الجموع، ثم احتمى بعد هزيمتها مع ثقيف بالطائف، فليحاصر المسلمون الطائف وليضيقوا عليها الحصار. وتلك كانت خطة محمد في خيبر بعد أحد، وفي قريظة بعد الخندق. ولعله ادكر في موقفه هذا يوم ذهب إلى الطائف لسنوات قبل الهجرة يدعو أهلها إلى الإسلام، فسخروا منه وقذفه صبيانهم بالأحجار، حتى اضطر إلى الاحتماء من أذاهم بحائط

4

فيه كرم. ولعله ادكر كيف ذهب يومئذ منفردا ضعيفا، لا حول له ولا قوة إلا حول الله وقوته، وإلا هذا الإيمان العظيم الذي ملأ صدره والذي يدك الجبال. وها هو ذا الآن يذهب إلى الطائف في جمع من المسلمين لم تشهد جزيرة العرب في ماضي تاريخها جمعا مثله.

أمر محمد أصحابه إذن أن يسيروا إلى الطائف ليحاصروا بها ثقيفا وعلى رأسها مالك بن عوف. وكانت الطائف مدينة محصنة لها أبواب تغلق عليها كأكثر مدن العرب في ذلك العصر. وكان أهلها ذوي دراة بحرب الحصار، وذوي ثروة طائلة جعلت حصونهم من أمنع الحصون. وقد سار المسلمون إليها فمروا في مسيرتهم بلية حيث يقوم حصن خاص لمالك بن عوف فهدموه، كما خربوا أثناء مسيرتهم كذلك حائطا لرجل من ثقيف. وبلغ المسلمون الطائف، فأمر النبي عسكره فنزل على مقربة منها، وجمع أصحابه ليفكروا فيما يصنعون. لكن ثقيفا ما لبثت حين رأتهم من أعلى حصونها أن نالتهم بالنبل وقتلت جماعة منهم. ولم يكن من اليسير أن يقتحم المسلمون هذه الحصون المنيعة إلا أن يلجئوا إلى وسائل غير التي ألفوا حتى اليوم حين حاصروا قريظة وخيبر. أتراهم إن هم اكتفوا بالحصار يصلوا إلى تجويع ثقيف تجويعا يحملها على التسليم؟ وإذا هم أرادوا مهاجمتها فما عسى أن تكون هذه الوسائل الجديدة التي يهاجمونها بها؟ هذه أمور تحتاج إلى التفكير وإلى الوقت. فلينسحب العسكر إذن بعيدا عن مرمى النبل لكي لا يصيبه فيقتل رجال من المسلمين، ثم ليفكر محمد فيما عسى أن يصنع.

وأمر عليه السلام فنقل العسكر بعيدا عن مرمى النبل في مكان أقيم به مسجد الطائف بعد أن سلمت الطائف وأسلمت. ولم يكن من ذلك بد وقد قتلت نبال ثقيف ثمانية عشر من المسلمين، وجرح كثيرون، بينهم أحد أبناء أبي بكر. وفي جانب من هذا المكان البعيد عن مرمى النبال ضربت خيمتان من جلد أحمر لزوجتي النبي أم سلمة وزينب، وكانتا تسيران معه في كل هذه الوقائع منذ ترك المدينة. وبين هاتين الخيمتين كان محمد يقيم الصلاة. ولعل مسجد الطائف إنما أقيم في هذا المكان.

وأقام المسلمون ينتظرون ما الله صانع بهم وبعدوهم. قال أحد الأعراب للنبي: إنما ثقيف في حصنها كالثعلب في جحره، لا سبيل إلى إخراجه منه إلا بطول المكث، فإن تركته لم يلحقك منه ضر. لكنما شق على محمد أن يعود أدراجه دون أن يصيب من ثقيف شيئا. وكان لبني دوس (إحدى القبائل المقيمة بأسفل مكة) علم بالرماية بالمنجنيق وبمهاجمة الحصون في حماية الدبابات. وكان أحد رؤسائها الطفيل قد صحب محمدا منذ غزا خيبر؛ وكان معه عند حصار الطائف؛ فأوفده النبي إلى قومه يستنصرهم؛ فجاء بطائفة منهم ومعهم أدواتهم فبلغوا الطائف بعد أربعة أيام من حصار المسلمين إياها، ورمى المسلمون الطائف بالمنجنيق، وبعثوا إليها بالدبابات دخل تحتها نفر منهم، ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف ليخرقوه. لكن رجال الطائف كانوا من المهارة بحيث أكرهوا هؤلاء على أن يلوذوا بالفرار. فقد أحموا قطعا من الحديد بالنار. حتى إذا انصهرت ألقوها على الدبابات فحرقتها، ففر جنود المسلمين من تحتها خيفة أن يحترقوا؛ فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلت جماعة منهم. لم يفلح هذا المجهود إذن أيضا، ولم يستطع المسلمون التغلب على مناعة هذه الحصون.

ماذا عساهم بعد ذلك يصنعون؟ فكر محمد في هذا وفكر طويلا. ولكن ألم ينتصر على بني النضير ويجلها عن ديارها بإحراق نخيلها؟! وكروم الطائف أكبر قيمة من نخيل بني النضير، فهي كروم لها من ذيوع الاسم في بلاد العرب جمعاء ما تباهي به الطائف أخص بلاد العرب، وما جعل الطائف واحة كأنها الجنة وسط هذه الصحاري. وأمر محمد فبدأ المسلمون ينفذون، يقطعون ويحرقون الكروم التي ما يزال لها حتى اليوم مثل ما كان لها من شهرة وذيوع صوت. ورأى الثقفيون هذا وأيقنوا أن محمدا جاد فيه، فبعثوا إليه أن يأخذه لنفسه إن شاء وأن يدعه لله وللرحم لما بينه وبينهم من قرابة. استمهل محمد رجاله. ثم نادى في ثقيف إنه معتق من جاء إليه من الطائف. ففر إليه قرابة عشرين من أهلها. عرف منهم أن بالحصون من الذخيرة ما يكفي أمدا طويلا. هنالك رأى أن الحصار سيطول أمده، وأن جيوشه تود الرجوع لاقتسام الفيء الذي كسبوا، وأنه إن أصر على البقاء فقد ينفد صبرهم. هذا وكانت الأشهر الحرم قد آذنت ولا يجوز فيها قتال. لذلك آثر أن يرفع الحصار بعد شهر من وقوعه. وكان ذو القعدة قد هل فرجع بجيشه معتمرا، وذكر أنه متجهز إلى الطائف إذا انتهت الأشهر الحرم.

وانصرف محمد والمسلمون معه عن الطائف قافلين إلى مكة حتى نزلوا الجعرانة حيث تركوا غنائمهم وأسراهم. وهنالك نزلوا يقتسمون. وفصل الرسول الخمس لنفسه ووزع ما بقي على أصحابه. وإنهم بالجعرانة إذ جاء وفد من هوازن قد أسلموا وهم يرتجون أن يرد عليهم أموالهم ونساءهم وأبناءهم، بعد أن طال عنهم غيابهم، وبعد أن ذاقوا مرارة ما حل بهم. ولقي الوفد محمدا، وخاطبه أحدهم قائلا: يا رسول الله، إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللواتي كن يكفلنك. ولو أنا ملحنا

ناپیژندل شوی مخ