175

أبو سفيان :

بأبي أنت وأمي! ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننت لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى شيئا بعد.

النبي :

ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟!

أبو سفيان :

بأبي وأمي! ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما والله هذا فإن في النفس منها حتى الآن شيئا!

فتدخل العباس موجها القول إلى أبي سفيان أن يسلم ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقه. ولم يجد أبو سفيان أمام هذا إلا أن يسلم. فتوجه العباس بالقول إلى النبي عليه السلام: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئا. قال رسول الله: «نعم! من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.»

هذه الوقائع وارد عليها اتفاق المؤرخين وكتاب السيرة جميعا إلا أن بعضهم يسائل: أهي قد حدثت كلها بمحض المصادفة؟ فخروج العباس إلى النبي كان قصده منه أن يذهب إلى المدينة فإذا هو يلقى جيوش المسلمين بالجحفة، وخروج بديل بن ورقاء مع أبي سفيان بن حرب كان لمحض الاستطلاع، مع أن بديلا ذهب قبل ذلك إلى المدينة وقص على النبي ما لقيت خزاعة وعرف من النبي أنه ناصرها، وخروج أبي سفيان كان جهلا منه بأن محمدا قد سار لغزو مكة! أم أن شيئا من الاتفاق، قليلا أو كثيرا، كان قد حدث قبل ذلك، وأن هذا الاتفاق هو الذي أخرج العباس للقاء محمد، وأن هذا الاتفاق هو الذي جمع بين العباس وأبي سفيان، وأن أبا سفيان كان قد وثق، منذ ذهب إلى المدينة ليمد في عهد الحديبية ورجع صفر اليدين، بأن لا سبيل لقريش إلى رد محمد، وأيقن أنه إذا مهد للفتح السبيل فستبقى له رياسته في مكة ومقامة الكبير فيها، وأن الذي ربما كان وقع عليه الاتفاق من ذلك لم يتعد محمدا والأشخاص الذين يعنيهم الأمر، بدليل ما هم به عمر من قتل أبي سفيان؟ من المغامرة أن نحكم. لكنا نستطيع أن نقرر - مطمئنة نفوسنا - أنه سواء أكانت المصادفة هي التي ساقت ذلك كله أم أن شيئا من الاتفاق قد وقع عليه، فالحالان تدلان على دقة محمد ومهارته في كسب أكبر موقعة في تاريخ الإسلام من غير حرب ومن غير إراقة دماء.

لم يمنع إسلام أبي سفيان محمدا أن يتخذ لدخول مكة كل ما لديه من أهبة وحذر. وإذا كان النصر بيد الله يؤتيه من يشاء، فإن الله لا يؤتي النصر إلا من أعد له كل عدته، واحتاط لكل دقيقة وجليلة قد تقف في سبيله، لذلك أمر أن يحبس أبو سفيان بمضيق الوادي عند مدخل الجبل إلى مكة، حتى تمر به جنود المسلمين فيراها ليحدث قومه بها عن بينة، ولكي لا يكون في إسراعه إليهم خيفة مقاومة أيا كان نوعها. ومرت القبائل بأبي سفيان، فما راعه منها إلا الكتيبة الخضراء يحيط بمحمد فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد. فلما عرف أبو سفيان أمره قال: يا عباس! ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة. والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما! ثم انطلق إلى قومه يصيح فيهم بأعلى صوته: يا معشر قريش! هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.

وسار محمد في الجيش، حتى إذا انتهى إلى ذي طوى، ورأى من هناك مكة لا تقاوم استوقف كتائبه، ووقف على راحلته، وانحنى لله شاكرا، أن فتح الله عليه مهبط الوحي ومقر البيت الحرام ليدخله والمسلمين آمنين مطمئنين. وفيما هو كذلك طلب أبو قحافة، ولم يكن قد أسلم كابنه، إلى حفيدة له أن تظهر به على أبي قبيس، وكان قد كف بصره. فلما ارتفعت به الجبل سألها ما ترى؟ قالت: أرى سوادا مجتمعا. قال: تلك الخيل. ثم قالت: قد والله انتشر السواد. فقال: تلك الخيل دفعت إلى مكة، فأسرعي بي إلى بيتي. ولم يصل إلى بيته حتى كانت الخيل قد زحفت وتلقته قبل بلوغه إياه.

ناپیژندل شوی مخ