160

2

ومن يومئذ كان منادي الرسول ينادي وقت الصلاة: لا يقربن الصلاة سكران. وعلى رغم ما كان يقضي هذا الأمر من الإقلال من الشراب، وما كان له في هذه الناحية من أثر بالغ جعل الكثيرين يقلون من الخمر ما استطاعوا، عاد عمر بعد زمن يقول: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فإنها تذهب العقل والمال. وقد كان عمر في حل من قولها أن كان العرب، والمسلمون من بينهم، يصل بهم الشراب إلى حد يجعلهم يعربدون، يأخذ بعضهم بلحية بعض، ويهوي بعضهم على رأس بعض. دعا بعضهم جماعة إلى طعام وشراب، فلما ثملوا ذكروا المهاجرين والأنصار، فأبدى أحدهم التعصب للمهاجرين فأخذ متعصب للأنصار بعظمة من عظام رأس الجزور التي يأكلونها فجرح بها أنف المهاجري. وثمل حيان فتشاجرا فشج بعضهم بعضا فوقعت في أنفسهم الضغائن، وكانوا من قبل ذلك أحبة متصافين. إذ ذاك نزل قوله تعالى:

يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون .

3

وقد كان أنس الساقي يوم حرمت الخمر، فلما سمع المنادي بتحريمها بادر فأراقها. ولكن أناسا لم يرقهم هذا التحريم فقالوا: أتكون الخمر رجسا وهي في بطن فلان وفلان قتل يوم أحد وفي بطن فلان وفلان قتل يوم بدر؟! فنزل قوله تعالى:

ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين .

4

وما أمر به الإسلام من البر والرحمة، وما دعا إليه من عمل الخير، وما في عبادته من رياضة النفس والطبع، وما يصل إليه الركوع والسجود في الصلاة من قتل غرور القلب، كل ذلك جعله الكمال الطبيعي للأديان التي سبقته، وجعل الدعوة إليه للناس كافة.

كان هرقل وكسرى يومئذ على رأس دولتي الرومان والفرس أقوى دول العصر وصاحبتي الإملاء في سياسة العالم ومصاير أممه جميعا. وكانت الحرب سجالا بين الدولتين كما رأيت؛ وكانت الفرس صاحبة الغلب أول الأمر فاستولت على فلسطين وعلى مصر ووضعت يدها على بيت المقدس ونقلت منه الصليب. ثم دارت على الفرس الدائرة، فعادت أعلام بزنطية تخفق مرة أخرى على مصر وعلى سورية وفلسطين، واسترد هرقل الصليب بعد أن نذر، إن هو تم له النصر، أن يحج إلى بيت المقدس ماشيا حتى يرد الصليب فيه إلى مكانه. ومن اليسير عليك إذ تذكر مكانة الدولتين أن تقدر ما يبعثه اسمهما من الرهبة إلى النفوس ومن الهيبة إلى القلوب، حتى لا تفكر دولة في التعرض لهما، ولا يدور بخلد أحد أن يفكر في غير خطبة ودهما. أما وذلك شأن دول العالم المعروفة يومئذ جميعا، فقد كان أجدر ببلاد العرب أن يكون ذلك شأنها.

فقد كانت اليمن والعراق تحت نفوذ فارس، وكانت مصر والشام تحت نفوذ هرقل؛ فكان الحجاز وسائر شبه الجزيرة محصورا في دائرة نفوذ الإمبراطوريتين. وكانت حياة العرب وقفا على تجارة مع اليمن ومع الشام، فكانوا بذلك محتاجين أشد الحاجة إلى مصانعة كسرى وهرقل جميعا حتى لا يفسد بسلطانهما عليها تجارتهم. ثم إن العرب إن يكونوا يزيدون على قبائل تشتد الخصومة بينها حينا وتهدأ حينا آخر، ولا تربط بعضها ببعض رابطة تجعل منها وحدة سياسية تستطيع أن تفكر في مواجهة نفوذ الدولتين العظيمتين؛ ولذلك كان عجيبا أن يفكر محمد يومئذ في أن يرسل رسله إلى الملكين العظيمين وإلى غسان واليمن ومصر والحبشة يدعوهم إلى دينه، دون خشية لما قد يترتب على عمله هذا من نتائج ربما تجر على بلاد العرب كلها الخضوع لنير فارس أو بزنطية.

ناپیژندل شوی مخ