والحق أن قريشا ظلموا محمدا وأصحابه بمنعهم من زيارة الكعبة وأداء فرائض الحج والعمرة. فلم يكن هذا البيت العتيق ملكا لقريش، ولكنه كان ملكا للعرب جميعا. وإنما كانت في قريش سدانة الكعبة وسقاية الحاج وما إلى ذلك من العناية بالبيت ورعاية زائريه. ولم يكن اتجاه قبيلة بعبادتها إلى صنم دون آخر ليبيح لقريش منعها من زيارة الكعبة والطواف بها والقيام بما تفرضه عبادة هذا الصنم من شعائر. فإذا جاء محمد ليدعو الناس إلى نبذ عبادة الأصنام وإلى التطهر من رجس الوثنية والشرك، وإلى السمو بالنفس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والارتفاع في سبيل ذلك فوق كل نقص، والارتقاء بالروح إلى حيث تستطيع إدراك وحدة الوجود والتوحيد بالله، وكان من فرائض ذلك حج البيت والعمرة، فمن العدوان منع أصحاب الدين الجديد من أداء هذه الفريضة. ولكن قريشا خافت إن جاء محمد ومن حوله المؤمنون بالله وبرسالته، وهم من صميم أهل مكة، أن يتعلق سواد المكيين بهم وأن يشعروا بما في بقائهم بعيدين عن أهليهم وأبنائهم من ظلم؛ فيكون ذلك نواة حرب أهلية. ثم إن رؤساء قريش وأكابر أهل مكة، لم ينسوا لمحمد والذين معه أنهم حطموا تجارتهم وحالوا بينهم وبين طريقهم المعبدة إلى الشام، وأنهم أثاروا بذلك في نفوسهم من الحقد والبغضاء ما لا يخفف منه أن البيت لله وللعرب جميعا، وأنهم لا يملكون من أمره إلا العناية به ورعاية زائريه.
انقضت ست سنوات منذ الهجرة والمسلمون يتحرقون شوقا يريدون زيارة الكعبة ويريدون الحج والعمرة، وإنهم لمجتمعون بالمسجد ذات صباح إذ أنبأهم النبي بما ألهم في رؤياه الصادقة: أنهم سيدخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون. فما كاد القوم يسمعون إلى رؤيا رسول الله حتى علا بحمد الله صوتهم، وحتى انتقل نبأ هذه الرؤيا إلى سائر أنحاء المدينة في سرعة البرق الخاطف. ولكن كيف يدخلون المسجد الحرام؟ أفيحاربون في سبيله؟ أفيجلون قريشا عنه عنوة؟! أم ترى تفتح قريش لهم طريقة مذعنة صاغرة؟
كلا! لا قتال ولا حرب. بل أذن محمد في الناس بالحج في شهر ذي القعدة الحرام، وأوفد رسله إلى القبائل من غير المسلمين يدعوهم إلى الاشتراك وإياه في الخروج إلى بيت الله آمنين غير مقاتلين. وحرص محمد في الوقت نفسه على أن يكون معه من المسلمين أكبر عدد مستطاع. وحكمته في ذلك أن تعلم العرب كلها أنه خرج في الشهر الحرام حاجا ولم يخرج غازيا، وأنه أراد أداء فريضة فرضها الإسلام كما فرضتها أديان العرب من قبل، وأنه أشرك العرب معه ممن ليسوا على دينه في أداء هذه الفريضة. فإن أصرت قريش مع ذلك على مقاتلته في الشهر الحرام ومنعه من أداء ما يؤمن العرب على اختلاف آلهتهم به، لم تجد قريش من العرب من يؤيدها في موقفها ولا من يعينها على قتال المسلمين، وكانت بإمعانها في الصد عن المسجد الحرام تصرف الناس عن دين إسماعيل وعن ملة أبيهم إبراهيم . وبذلك يأمن المسلمون أن تجتمع العرب عليهم اجتماع الأحزاب من قبل، ويزداد دينهم رفعة على رفعته عند العرب الذين لا يؤمنون به. وما عسى أن تقول قريش لقوم جاءوا محرمين، لا سلاح معهم إلا سيوفهم في غمودها، يتقدمهم الهدي الذي ينحرون، ولا هم لهم إلا أن يؤدوا بتطواف البيت فريضة تؤديها العرب جميعا؟!
أذن محمد في الناس بالحج، وطلب إلى القبائل من غير المسلمين الخروج معه، فأبطأ كثير من الأعراب. وخرج في أول ذي القعدة أحد الأشهر الحرم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، يتقدمهم على ناقته القصواء، فكانت عدة الذين خرجوا ألفا وأربعمائة. وساق محمد معه الهدي سبعين بدنة؛ وأحرم بالعمرة، ليعلم الناس أنه لا يريد قتالا، وأنه إنما خرج زائرا بيت الله الحرام معظما له. فلما بلغ ذا الحليفة
3
عقص الناس الرءوس، ولبوا بالعمرة، وعزلوا الهدي ومازوا جوانبها اليمنى ومن بينها بعير أبي جهل الذي أخذوا ببدر، ولم يحمل أحد من هذا الحاج سلاحا إلا ما يحمل المسافر من سيف مغمد. وكانت أم سلمة زوج النبي معه في هذه الرحلة.
وبلغ قريشا أمر محمد ومن معه وأنهم يسيرون قبلهم حاجين؛ فامتلأت نفس قريش بالمخاوف وجعلوا يقلبون هذا الأمر على وجوهه، يحسبونه حيلة أراد محمد أن يحتال بها على دخول مكة بعد أن صدهم والأحزاب معهم عن دخول المدينة، ولم يثنهم ما عملوا من إحرام خصومهم بالعمرة وإذاعتهم في أنحاء الجزيرة كلها أنهم لا تحركهم إلا العاطفة الدينية لقضاء فرض يقره العرب جميعا، عن أن يقرروا الحيلولة بين محمد ودخول مكة، بالغا ما بلغ الثمن الذي يدفعونه لتنفيذ قرارهم هذا. لذلك عقدوا لخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل على جيش يبلغ عدد فرسانه وحدهم مائتين، وتقدم هذا الجيش حتى يحول بين محمد وأم القرى، وبلغ من تقدمه أن عسكر بذي طوى.
أما محمد فتابع مسيرته، حتى إذا كان بعسفان
4
لقيه رجل من بني كعب سأله النبي عما قد يكون لديه من أخبار قريش، فكان جوابه: «قد سمعت بمسيرك فخرجوا، وقد لبسوا جلود النمور ونزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا. وهذا خالد بن الوليد في خيلهم وقد قدموها إلى كراع الغميم.»
ناپیژندل شوی مخ