145

أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق

ولم يكن الزنا يومئذ بالجريمة ذات الخطر والشأن في بعض القبائل. وكان الغزل بعض معروف العرب جميعا. ولقد ذكر الرواة عند هند هذه، على ما كان لأبي سفيان من مكانة وخطر، أحاديث غرام وهوى لم تغير من مكانتها في قومها ولا بين أهلها. ثم إن المرأة كانت إذا ولدت، ولم يعرف لمولودها أب، لم تأب أن تذكر من لامسها من الرجال لينسب مولودها إلى أيهم كان أقرب إليه شبها. ولم يكن إلى ذلك الوقت لتعداد الزواج ولا للرق حد أو قيد. كان للرجل أن يتزوج ما شاء، وأن يتسرى ما شاء، وكان لهؤلاء ولأولئك أن يلدوا ما شاءوا. وكان الأمر في ذلك لا خطر له إلا أن يتضح وتخشى معرته، وما قد يجر وراءه من أهاجي تتبادل لا يدري أحد ما ينجم عنها من خصومة وقتال. هنالك يتبدل الأمر غير الأمر، وترى ما كانت المودة قد سترت من قبل من ملاحم الهوى ووثبات الغرام، قد هتكته الخصومة فجعلته سببا لملاحم القتال ووثبات النزال.

وإذا شبت الخصومة فلكل أن يتقول ما شاء وأن يزعم ما يريد. وخيال العربي خصب، بطبيعة عيشه تحت السماء، وتجواله الدائم في طلب الرزق، واضطراره إلى المغالاة وإلى الكذب أحيانا في شئون التجارة. والعربي مولع بالفراغ الذي يغريه بالغزل ويزيد خياله في السلم والحرب خصبا. فإذا وقف زيد في السلم يحادث هندا حديث هوى لم يزد على شهي اللفظ تساقطه لآلئ الثنايا العذاب، رأيت زيدا هذا حين الخصومة والحرب يرفع عقيرته بهند، وقد لقيها أمامه متجردة، يقول في نحرها وصدرها ونهدها وخصرها وعجيزتها وما دون ذلك ما شاءت له أفانين الخصومة، واهتياج الخيال الذي لا يعرف في المرأة غير الأنثى وغير ما تفرش من النمارق. ومع ما قضى الإسلام على هذه النفسية فقد بقي من آثارها ما نقرؤه في مثل شعر عمر بن أبي ربيعة، وما تأثر به شعر الغزل في العربية إلى عصور كثيرة، وما لا يزال له أثره، ولو إلى حد قليل، في شعر عصرنا الحاضر.

ربما بدا هذا التصوير للقارئ المعجب بالعرب وحضارتهم، وللمعجب حتى بعرب الجاهلية، مشوبا بشيء من الغلو. وللقارئ العذر من ذلك، إذ يوازن بين هذه الصورة التي وضعناها أمامه، وما هو واقع بالفعل في عصرنا الحاضر وما نرجو أن تصل إليه صلات الرجل والمرأة في الزواج والطلاق وصلات الزوجين والأبناء. لكن موازنة كهذه مخطئة جديرة أن تجر إلى أفحش الضلال. إنما يجب أن يوازن بين الجماعة العربية التي صورنا إحدى نواحيها في القرن السابع المسيحي، والجماعات الإنسانية في ذلك العصر.

وما أحسبنا نغالي إذا قلنا: إن الجماعات العربية كانت، مع ما وصفنا من أمرها، خيرا بكثير من الجماعات المعاصرة لها في آسيا وفي أوروبا. ولسنا نقف عند ما كان من ذلك في الصين أو في الهند، فما لدينا من المعلومات عنه قليل لا غناء فيه. لكن أوروبا الشمالية وأوروبا الغربية كانت يومئذ في ظلمات تبيح لك أن تصور من نظام الأسرة فيها ما تريد مما يقرب من أوليات مراتب الإنسانية. وكانت الروم، وهي صاحبة الشرع يومئذ وصاحبة الغلب والسيادة والمنافس الوحيد القوي للفرس، تجعل المرأة من الرجل في مكانة دون مكانة المرأة العربية من الرجل حتى في البادية.

كانت المرأة في شرائع الروم يومئذ معتبرة متاعا مملوكا للرجل يتصرف فيه كيف يشاء. ويملك من أمره ما يريد حتى الحياة والموت. كانت تعامل معاملة الرق سواء، لا فارق بينها وبينه في نظر الشرع الروماني. كانت مملوكة لأبيها، ثم لزوجها، ثم لابنها، وكان ملكهم إياها تاما كملكهم الرقيق وكملكهم الحيوان والجماد. وكان ينظر إلى المرأة على أنها مثار الشهوة، وعلى أنها لا سلطان لها على أنوثتها الحيوانية، حتى لم يكن بد من اصطناع نطاق العفة ومن التمسك بذلك قرونا متوالية، بعد هذا العصر الذي نصف فيه أحوال جزيرة العرب. ومع أن السيد المسيح - عليه السلام - كان برا بالنساء عطوفا عليهن. حتى لقد قال حين أظهر بعض رجاله العجب لحسن معاملته مريم المجدلية: «من لم يكن منكم ذا خطيئة فليرمها بحجر.» مع هذا ظلت أوروبا المسيحية، كما كانت أوروبا الوثنية من قبل، تزدري المرأة شر ازدراء. ولم تكن تنظر إلى صلاتها بالرجل على أنها صلات الذكورة والأنوثة وكفى، بل على أنها صلة عبودية ورق ومهانة مما طوع لبعض المتكلمين في عصور مختلفة أن يتساءلوا: أللمرأة روح وأنها ستحاسب، أم أنها كالحيوان لا روح لها ولا تعرف عند الله حسابا وليس لها في ملكوت الله متسع؟!

وكان محمد يقدر، بما أوحي إليه، أن لا صلاح للجماعة إلا بتعاون الرجل والمرأة، باعتبار أنهما أخوان متضامنان تضامن مودة ورحمة، وأن للنساء مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة. لكن الأخذ في ذلك بالطفرة لم يكن أمرا ميسورا، ومهما يكن من إيمان العرب الذين اتبعوه به، فإن أخذهم باليسير من الأمر وعدم تعريضهم للحرج، أدعى إلى مزيد إيمانهم، وإلى ازدياد أنصاره. وكذلك كان الشأن في كل إصلاح اجتماعي فرضه الله على المسلمين.

بل كذلك كان الشأن في فروض الدين ذاتها، في الصلاة والصوم والزكاة والحج. وكذلك كان الشأن في المحرمات كالخمر والميسر ولحم الخنزير وما إليها. وقد بدأ محمد، في شأن الإصلاح الاجتماعي، وتقرير صلات ما بين الرجل والمرأة، بالمثل يضربه فيما بينه وبين أزواجه مما كان المسلمون جميعا يرونه. فالحجاب لم يفرض على نساء النبي إلى ما قبيل غزوة الأحزاب كما لم يفرض تحديد الزوجات بأربع مع شرط العدل إلى ما بعد غزوة الأحزاب، بل إلى ما بعد غزوة خيبر بأكثر من سنة. فكيف يصل النبي إلى توطيد علاقات الرجل والمرأة على أساس صالح، تمهيدا لهذه المساواة التي انتهى الإسلام إليها، مساواة تجعل للنساء مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة؟

كانت صلات الرجل والمرأة عند المسلمين، كما كانت عند سائر العرب، على ما وصفنا، مقصورة على صلات الذكورة الأنوثة. وكان التبرج وإبداء الزينة بصورة تدعو إلى تحرش الرجال بالنساء، كلما وجدوا الفرصة لذلك بعض ما يذكي عواطف الجنس عند الرجل والمرأة على سواء، وما يحول لذلك دون التقريب بينهما تقريبا أساسه المعنى الإنساني السامي، وأساسه الاشتراك الروحي في العبودية لله وحده. وقد نشأ عن قيام طوائف اليهود والمنافقين في المدينة، وخصومتهم لمحمد وللمسلمين، أن بلغ تحرش هذه الطوائف بالمسلمات حدا أدى إلى حصار بني قينقاع كما رأيت، وإلى إيصال الأذى للمسلمات، مما كانت تنشأ عنه مشاكل لا ضرورة لها. فلو أن المسلمات لم يبدين زينتهن أثناء خروجهن، لكان ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين، ولوفر ذلك هذه المشاكل، ولكان بدءا حسنا لهذه المساواة التي يريد الإسلام تحقيقها بين الجنسين، من غير أن يشعر المسلمون، رجالا ونساء، بانتقال في الفكرة لم يمهدوا له.

ناپیژندل شوی مخ