140

(حيي بن أخطب وتأليبه العرب جميعا على المسلمين - عشرة آلاف مقاتل يقصدون المدينة - سلمان الفارسي يشير بحفر الخندق حولها - حصار قريش وغطفان إياها - نقض بني قريظة عهدهم مع المسلمين - ضياع الثقة بين العرب واليهود - انسحاب العرب عن المدينة - محاصرة بني قريظة - القضاء عليهم بالقتل ...) ***

آن للمسلمين بعد إجلائهم بني النضير عن المدينة، وبعد بدر الآخرة، وبعد غزوتي غطفان ودومة الجندل، أن يركنوا إلى شيء من الطمأنينة إلى الحياة بالمدينة. وذهبوا ينظمون عيشهم، وكان من بعد أقل شظفا بما غنموا في غزواتهم هذه، وإن كانت قد صرفتهم في كثير عن الزرع والتجارة. وكان محمد على طمأنينته حذرا غدرة العدو، باثا دائما عيونه وأرصاده في أنحاء شبه الجزيرة ينقلون إليه من أخبار العرب وما يأتمرون به ما يمهد له دائما فرصة الأهبة لدفاع المسلمين عن أنفسهم. ومن اليسير عليك أن تقدر ضرورة الحذر والحيطة بعد كل الذي رأيت من غدرات قريش وغير قريش بالمسلمين ومن أن بلاد العرب كلها كانت في ذلك الحين، وكانت من بعد ذلك في أكثر أطوار تاريخها، أشبه بمجموعة جمهوريات مستقلة كل واحدة منها عن سائرها، تتخذ كل واحدة منها نظاما هو أقرب ما يكون إلى نظام القبائل، وتضطر لذلك إلى الاحتماء بعادات وتقاليد لا يألفها تصورنا في الأمم المنظمة. وكان محمد أشد ما يكون حذرا أن كان عربيا بقدر ما ركب في الغريزة العربية من الحرص على الثأر. وقد كانت قريش وكان يهود بني قينقاع ويهود بني النضير وعرب غطفان وهذيل والقبائل المتاخمة للشام، تتربص كل واحدة منها بمحمد وأصحابه الدوائر، وتود كل واحدة منها لو تستطيع أن تجد الفرصة لإدراك ثأرها من هذا الرجل الذي فرق العرب في دينها شيعا، والذي خرج من مكة مهاجرا لا حول له ولا قوة إلا ما يملأ نفسه الكبيرة من الإيمان، وها هو ذا في خمس سنوات قد أصبح له من الحول ومن القوة ما جعله مرهوب الجانب من أشد مدائن العرب ومن أشد قبائلها حولا وقوة.

ولقد كان اليهود أبصر خصوم محمد بتعاليمه وبمصير دعوته، وكانوا أكثرهم تقديرا لما يصيبهم بانتصاره. فهم كانوا في بلاد العرب دعاة التوحيد، وكانوا ينافسون المسيحيين في سلطانهم ويأملون مغالبتهم والتغلب عليهم. ولعلهم كانوا على حق أن كانت السامية أميل بطبعها إلى فكرة التوحيد، على حين كان التثليث المسيحي مما لا يسهل على هذه النفس الحامية مساغه. وهذا محمد من صميم العرب ومن صميم الساميين، يدعو إلى التوحيد بعبارات قوية نفاذة تأخذ بمجامع الفؤاد، وتصل إلى أعماق القلب، وتسمو بالإنسان إلى ما فوق نفسه. وها هو ذا قد بلغ من القوة حتى أخرج بني قينقاع من المدينة، وحتى أجلى بني النضير عن ديارهم؟ فهل يتركونه وشأنه منصرفين إلى الشام وإلى وطنهم الأول بيت المقدس في أرض المعاد، أم تراهم يحاولون تأليب العرب عليه ليأخذوا بالثأر منه؟

كانت فكرة تأليب العرب هي الفكرة التي اختمرت في نفوس أكابر بني النضير. وتنفيذا لها خرج نفر منهم، ومن بينهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وكنانة بن أبي الحقيق، ومعهم نفر من بني وائل هوذة بن قيس وأبو عمار حتى قدموا على قريش مكة. فسأل أهلها حييا عن قومه، فقال: تركتهم بين خيبر والمدينة يترددون حتى تأتوهم فتسيروا معهم إلى محمد وأصحابه. وسألوه عن قريظة، فقال: أقاموا بالمدينة مكرا بمحمد، حتى تأتوهم فيميلوا معكم. وترددت قريش أتقدم أم تحجم؛ فليس بينها وبين محمد خلاف إلا على الدعوة التي يدعو إلى الله. أليس من الممكن أن يكون على حق ما دامت كلمته تزداد كل يوم رفعة وسموا؟! وقالت قريش لليهود: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول وأهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ قالت اليهود: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. وإلى ذلك يشير القرآن الكريم في قوله تعالى:

ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا * أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا .

1

وفي موقف اليهود هذا من قريش وتفضيلهم وثنيتهم على توحيد محمد يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون في كتابه «تاريخ اليهود في بلاد العرب»: «كان من واجب هؤلاء ألا يتورطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش، وألا يصرحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامي ولو أدى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطالبهم؛ لأن بني إسرائيل الذين كانوا مدة قرون حاملي راية التوحيد في العالم بين الأمم الوثنية باسم الآباء الأقدمين، والذين نكبوا بنكبات لا تحصى من تقتيل واضطهاد بسبب إيمانهم بإله واحد في عصور شتى من الأدوار التاريخية، كان من واجبهم أن يضحوا بحياتهم وكل عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين. هذا فضلا عن أنهم بالتجائهم إلى عباد الأصنام إنما كانوا يحاربون أنفسهم ويناقضون تعاليم التوراة التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام وبالوقوف منهم موقف الخصومة.»

لم يكف حيي بن أخطب واليهود الذين معه هذا الذي قالوا لقريش في تفضيل وثنيتها على توحيد محمد حتى تنشط لمحاربته، وأن يأخذوا وإياهم لذلك بعد أشهر موعدا، بل خرج أولئك اليهود إلى غطفان من قيس عيلان، ومن بني مرة، ومن بني فزارة، ومن أشجع، ومن سليم ومن بني سعد، ومن أسد، ومن كل من لهم عند المسلمين ثأر، وما زالوا بهم يحرضونهم على الأخذ بثأرهم ويذكرون لهم متابعة قريش إياهم على حرب محمد ويحمدون لهم وثنيتهم، ويعدونهم النصر لا محالة. وخرجت الأحزاب التي جمع اليهود لحرب محمد وأصحابه: خرجت قريش وعلى رأسها أبو سفيان في أربعة آلاف مجند وثلاثمائة جواد وخمسمائة وألف ممتط بعيره. وعقد اللواء في دار الندوة لعثمان بن طلحة الذي قتل أبوه وهو يحمل لواء قريش في أحد. وخرجت بنو فزارة وعلى رأسها عيينة بن حصن بن حذيفة في رجال كثيرين وألف بعير. أما أشجع ومرة فجاء كل منهما في أربعمائة محارب، يتزعم الحارث بن عوف مرة، ويتزعم مسعر بن رخيلة أشجع. وجاءت سليم أصحاب بئر معونة في سبعمائة رجل. واجتمع هؤلاء وانحاز إليهم بنو سعد وأسد، فصاروا في عشرة آلاف رجل أو نحوها، وساروا جميعا تحت إمرة أبي سفيان قاصدين المدينة. فلما بلغوها تداول زعماء هذه القبائل الزعامة أثناء الحرب كل يوما على التوالي.

واتصل نبأ هذا السير بمحمد والمسلمين معه في المدينة ففزعوا. ها هي ذي العرب كلها قد أجمعت أمرها لتسحقنهم ولتقضين عليهم ولتستأصلنهم. وها هي ذي قد جاءت في عدة وعديد ما لها في حروب العرب جميعا من قبل مثل. وإذا كانت قريش قد انتصرت في أحد عليهم لما خرجوا من المدينة وكانت دون هذه الأحزاب بمراحل في العدد والعدة، فماذا عسى أن يصنع المسلمون لمقابلة الألوف المؤلفة من رجال وخيل وإبل وأسلحة وذخيرة؟! لم يكن سبيل إلى غير التحصن بيثرب العذراء، على ما وصفها عبد الله بن أبي. ولكن أيكفي هذا التحصن أمام تلك القوة الساحقة؟! وكان سلمان الفارسي يعرف من أساليب الحرب ما لم يكن معروفا في بلاد العرب، فأشار بحفر الخندق حول المدينة وتحصين داخلها. وسارع المسلمون إلى تنفيذ نصيحته، فحفر الخندق وعمل فيه النبي - عليه السلام - بيديه، فكان يرفع التراب ويشجع المسلمين بذلك أعظم التشجيع، ويدعوهم إلى مضاعفة الجهد. وأخذ المسلمون آلات الحفر، من مساح وكرازين ومكاتل

2

ناپیژندل شوی مخ