إهداء
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
إهداء
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الحياة لنا
الحياة لنا
تأليف
ثروت أباظة
إهداء
إلى أبي دسوقي أباظة باشا:
ترددت في أن أرفع هذا الكتاب إليك؛ فإني
أخشى ألا أكون قد بلغت به المستوى الذي
ترضاه، ولكن ما أسرع ما زايلني هذا التردد؛
فمن يقبل مني إذا لم تقبل أنت؟!
فإليك في أقدس جوار.
ابنك
ثروت
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
أقدم هذا الكتاب إلى القراء، فكرة لا مسرحية، ومشكلة قديمة لا رواية ذات تمهيد وقمة وحل؛ المواقف فيها قائمة للدفاع عن فكرة بعينها، فلا يأخذن علي المشتغلون بالمسرح أنني لم أراع الفن المسرحي كاملا في مواقفي، ولم أعمد إلى أن تثير نهاية هذه المواقف الشكوك والتخمينات فيما قد يحدث في الموقف الذي يليه، بل ضحيت بكل هذا لأجلو الفكرة التي كتبت من أجلها المسرحية كلها، وكثيرا ما كنت أتوقف في مفرق الطريقين بين إظهار الفكرة ومراعاة المسرح؛ فلا يطول بي التوقف، بل كنت أسير قدما في الطريق الذي يوضح الفكرة التي أكتب لها.
كان هذا فيما يتصل بالمسرحية ذاتها، أما فيما يتعلق بأشخاصها فقد قصدت إلى الدقة في تصويرهم، بحيث لا تلتوي مني الشخصية، ولا تنماع، حتى إذا تحولت الشخصية من طريق إلى طريق، بينت - قدر الجهد - أسباب هذا التحول ودوافعه. ولا شك أن تحليل الشخصيات التي أردت بها القصة، كان ضمن الأهداف التي قصدت إليها من الكتابة.
والقصة في مجموعها خيالية كما سيتضح للقارئ، وهذا يوسع لي أن أرسم من الشخصيات ما يحلو لي، ملتزما - بطبيعة الحال - القيود الطبيعية، فقد يرى قارئ - مثلا - أن شخصية مجدي شخصية مثالية لا توجد في القرن العشرين، بينما أرى أنا أنها تمثل المثالية العملية التي تسود الفلسفة الأخلاقية في القرن العشرين. وعلى كل حال هل هناك ما يمنعنا من الأمل في وجود مثلها؟! وإني في هذا أسير مع القائلين: إن وظيفة الكاتب هي أن يرسم الشخصيات تنبض بالنبضات الإنسانية التي نعرفها، وليس حتما على الكاتب أن يختار شخصياته من واقع الحياة نفسها، بل له أن يضفي عليها من آماله ونظرياته ما يريد.
وقد اخترت لأسلوب الكتابة اللغة العربية البسيطة، لعل المتحاملين على اللغة العربية يخففون الوطأة بعض الشيء، فهي لغة تستطيع أن تصل إلى الجميع، إذا حاول الكتاب أن يصلوا بها إلى العامة وصلوا، وإذا كان هذا يكلفهم بعض الجهد، فلا بد للكتاب أن يجهدوا ما داموا قد اختاروا لأنفسهم مهنة لا راحة فيها.
على أن اللغة العربية - والحمد لله - سوف تبقى على الزمان مهما يحاول الزمان أن يغض منها، فالكاتب باللغة العامية في مصر يكتب لمصر فقط، بل لعله يكتب للقاهرة وحدها، أما الكاتب باللغة العربية فالعالم العربي كله يستطيع أن يقرأ له ويفهم عنه، وإن الجمال الذي تضفيه لغة القرآن على الكتابة لتتقاصر دونه كل اللغات العامية في العالم، ومهما يقل القائلون فإن الناحية الجمالية في الفن كانت وما زالت وسوف تظل من أهم مقومات الفنون.
ثروت
الفصل الأول
المنظر الأول (منزل حمدي بك العباسي، غرفة الصالون تجلس بها تحية ومعها ابنة خالتها سناء. الأثاث منسق في ذوق جميل وهو أنيق ولكن ليس بالغ الأناقة. الوقت صباحا. تحية مضطربة بعض الشيء وقريبتها تحدثها.)
سناء :
وتمت الخطبة!
تحية :
صحيح؟
سناء :
وحياتك.
تحية :
حب كبير؟
سناء :
جدا. تصوري خطبها يوم الخميس الفائت، ويريد أن يتزوج بعد شهر!
تحية :
يا سلام! وفيم كل هذه السرعة؟
سناء :
الحب يا حبيبتي.
تحية :
هيه يا سناء. أحيانا الحب يمنع من الزواج!
سناء :
كلام فارغ. الحب يعمل المستحيل.
تحية :
صحيح يعمل المستحيل، ولكنني لا أراه يعمل الغنى أبدا. يظهر يا سناء أن الغنى أكثر من المستحيل!
سناء :
من قال؟ الغنى نتيجة طبيعية للاجتهاد، والاجتهاد نتيجة طبيعية للحب.
تحية :
أنت غلطانة يا سناء.
سناء :
أنت الغلطانة.
تحية :
تقصدين خطبتي؟
سناء :
طبعا أقصد خطبتك، أنت مخطوبة من سنتين!
تحية :
أبي يمنع إبراهيم من التوظف بالحكومة.
سناء :
وما له؟!
تحية :
والله يا سناء أنا عارفة كل الظروف المحيطة بي وبإبراهيم، وأعرف أنه لو اجتهد لا بد أن يصل.
سناء :
وساكتة؟!
تحية :
وساكتة يا سناء. إبراهيم يعتقد أنه لن ينجح إلا إذا توظف. (تدخل أم تحية إجلال هانم وهي سيدة وقورة ذكية.)
إجلال :
ماذا جرى يا بنات؟ الكلام طال بينكم.
تحية :
والله يا أمي الكلام جر بعضه.
إجلال :
وسناء ما ذنبها تقعد بين أربعة جدران؟ انزلي يا بنتي للجنينة.
سناء :
أبدا. والله هنا هواء والجو لطيف.
إجلال :
على كيفك. يا ترى العجائز لها مكان هنا؟
سناء :
أهلا وسهلا، أنت الخير والبركة.
إجلال (وهي تقعد) :
إبراهيم يجيء اليوم يا ترى؟
تحية :
أظن يا أمي.
إجلال :
شاب طيب وابن حلال.
سناء :
صحيح يا خالتي، لكن ابن حلال ليست كافية.
إجلال (متعجبة) :
ليست كافية؟!
سناء :
طبعا. وما لنا نحن إذا كان ابن حلال أو لا، ما دام لا يتكلم في الخطبة التي عفنت.
إجلال :
سبحان الله يا بنتي، كل إنسان له ظروفه.
سناء :
وظروفنا نحن يا خالتي؟! أليست لنا ظروف نحن أيضا؟
إجلال :
لا أفهم ما تقصدين.
سناء :
أقصد شابا يخطب أختي ويسكت بعد الخطبة سنتين، ومن الخطيبة؟ تحية؟! فتاة كل شاب يتمناها، طيب يتركها هو اليوم، ولا أقول غدا، بل اليوم يسعى لها ألف خطيب.
تحية (في غضب) :
لا، لا يا سناء، إلا أن يتركني. هي المسألة زواج؟ لا يا حبيبتي، ليس هذا الكلام، إلا أن يتركني أنا لو كنت أريد هذا ما تأخر.
سناء :
فاهمة، فاهمة. حب.
تحية :
طبعا. وما العيب؟ لو لم يكن الحب لما قبلت الخطبة.
إجلال :
الله! بنت. هكذا أمامي؟!
تحية :
أنت عارفة قبل الكل أن حبي لإبراهيم هو وحده الذي نعتمد عليه في حياتنا.
سناء :
يا حبيبتي، أين هي حياتك هذه؟ كل كلامي من أجل حياتك هذه، أريدها، أريد أن أرى بيتك، حياتك، أولادك.
تحية :
لا، لا يا سناء، المسألة زادت. هذا شيء وهذا شيء. إنه تأخر، أو معذور، مسألة أخرى غير أني أترك خطيبي.
سناء :
كيفك.
تحية :
طبعا كيفي.
سناء :
والله لولا أني منتظرة أخي مجدي لزعلت وتركتك.
تحية :
يا سلام! كل هذا لأني أحب خطيبي؟
سناء :
على كيفك.
تحية :
عارفة. قلتها الآن. (يدخل مجدي وهو شاب أنيق وسيم فيسمع آخر النقاش.)
مجدي :
أعوذ بالله! كلما رأيتكما سمعت الخناق.
تحية :
أهلا، أهلا بالكاتب الكبير والمحامي الشهير والأديب ...
مجدي (في تصنع العظمة) :
أعرف كل ألقابي يا سيدتي، فلا تتعبي نفسك في ذكرها.
إجلال :
بسم الله الرحمن الرحيم! ما له يتلكم وكأنه لويس الحادي عشر؟!
مجدي :
وما له لويس الحادي عشر أو حتى السادس عشر؟
تحية :
لا، ربنا يحفظك من السادس عشر يابن خالتي.
مجدي :
يا ستي، ربنا يحفظنا منك أولا.
تحية :
الله! بذمتك أنا عملت لك حاجة؟
مجدي :
لا، ولكن الاستقبال لم يكن يبعث على الاطمئنان.
إجلال :
عجيبة! لم يكن ينقصها إلا أن تنحني وتتقدم خطوة إلى الأمام وأخرى إلى الوراء وتقبل الأرض!
مجدي :
يا خالتي، تحية لا تتقدم لي بألقابي هذه إلا لتتبعها بإغاظتي.
تحية :
لا والله. قرأت لك كتابك الأخير وأعجبت به حقا، أعجبت به فعلا، ثم قرأت مقالك في الجريدة، ثم قرأت نقدا لكتابك كله مديح لك وللكتاب، فالحقيقة أنني انتظرت حتى أراك؛ لأقدم إعجابي.
مجدي :
صحيح أعجبك؟
تحية :
صحيح والله.
مجدي (في تعاظم مرة أخرى) :
أعرف، أعرف، الكل معجب به، فلماذا لا تعجبين؟ ومن أنت حتى لا تعجبي به؟!
تحية :
أنا غلطانة، كان يجب أن أقول الحق إذن.
مجدي (مقاطعا) :
في عرضك، إن الله لغني عن حقك هذا، الكذب أحسن، واظبي على الكذب.
إجلال :
يا أخي شغلتني عن ضيوف عمك.
سناء :
ضيوف عمي؟
إجلال :
عندنا اليوم أصدقاء عمك سيتناولون الغداء معه.
سناء :
طيب، وماذا ستفعلين؟
إجلال :
ماذا سأفعل؟ أقف في المطبخ وأشرف، (تقوم)
على فكرة يا مجدي أنت وسناء، الغداء عندنا اليوم.
مجدي :
من غير دعوة يا خالتي، من غير دعوة. وهل يعقل أن نترك وليمة بحالها؟
سناء :
عظيم، أنا سأعمل بأكلي وأشرف معك يا خالتي. (تخرج إجلال وسناء ويبقى بالمسرح مجدي وتحية.)
مجدي :
قولي لي، لماذا زعلت سناء؟
تحية :
عبيطة.
مجدي :
سناء؟! لا، جايز فيها العيوب كلها، إلا أنها عبيطة، والظاهر - والله أعلم - أن غيرها هو العبيط.
تحية :
إلى من تقصد يا سي مجدي؟ ماذا جرى؟ أنت وأختك اليوم ...
مجدي (مقاطعا) :
يا ستي أنت حرة، لا أنا ولا أختي. أين الدكتور؟
تحية :
إبراهيم؟ أظنه سيكون في العيادة بعد قليل. لماذا؟
مجدي :
تذكرته فقط.
تحية :
لا، لا بد من سبب.
مجدي :
نعم، ألف سبب. إن لم تكلميه أنت، تكلمت أنا.
تحية :
تكلمت؟ تكلمت فيم؟
مجدي :
في خطبتك.
تحية :
في خطبتي؟!
مجدي :
نعم.
تحية :
ماذا تقصد؟
مجدي :
أعني إذا لم يكمل الزواج، وسريعا، فسأخطبك أنا.
تحية :
مجدي!
مجدي (مازحا) :
وما له يا ستي، وإلا بالله كيف يمكن أن أجعله يحس بطول المدة، إلا إذا هددته هذا التهديد؟
تحية :
لعله يعلم بطول هذه المدة أكثر منك ومني!
مجدي :
والله إن كانت الأمور تؤخذ بالظواهر، وهذا هو الغالب لأن الخافي لا يعلمه إلا الله؛ فالظواهر كلها ليست في مصلحة الدكتور.
تحية :
والله يا مجدي هو شاب طيب ومخلص، لكن ظروفه كلها تعسة.
مجدي :
أنا لا أعرف شيئا اسمه ظروف، كلنا نقابل في حياتنا الظروف السيئة، ولكن ما الحياة إن لم نلق هذه الظروف ونتغلب عليها؟ هذه الحياة لنا، نحن سادتها، نحن من نتحكم فيها، ولا يمكن مطلقا أن نتركها تتحكم فينا.
تحية :
أنت تسرق من نفسك يا أستاذ مجدي، هذا الكلام في كتابك الأخير، ألم أقل لك إنني قرأته؟
مجدي :
لا والله يا تحية، هذه هي الحقيقة.
تحية :
نحن نتحكم في الحياة؟
مجدي :
نعم، نحن، الإنسان. لقد خلقت الحياة له، فهو من يتحكم فيها.
تحية :
فلماذا لا نتحكم في جنسنا؟ لماذا خلقت امرأة ولم أكن رجلا؟! ولماذا اسمي تحية؟! كيف عرفت الحياة أني أحب هذا الاسم؟ ولماذا سأموت يوم تشاء الحياة؟ ولعلها تختار تماما الوقت الذي أريد أن أحيا فيه.
مجدي :
يا حبيبتي، هذه ليست الحياة، إنها تمهيدات الحياة؛ الولادة تمهيد للحياة، والموت نهاية لها، نحن غير مخيرين في المقدمات أو النهايات، وإلا فتصوري بربك لو أن الأمر عرض عليك قبل ولادتك فرأيت أن تكوني رجلا، ثم اختار هذا الطريق من بعدك كل الإناث؟! أي حياة سنلقاها إذن؟ إن الحياة لن تمكث إلا بمقدار حياة هؤلاء الرجال. على أنه لو كان الأمر كذلك، واختارت أمك أن تكون رجلا، لما ولدت أنت، ولتعطلت حركة الحياة نهائيا، فجنس واحد لا يكفي. أما اسمك فاسألي عنه أمك وأباك، فهما من اختارا وهما إنسان، وأنا أتكلم عن الإنسان ككل، لا أقصدك أنت وأنا فقط. أما موتك فإنه لا بد أن يكون رغم أنفك، وإلا لو كان الأمر اختيارا لما تركت الحياة أبدا، ومن ذلك الذي يترك حياة هو واثق منها إلى حياة أخرى لا يعرف عنها شيئا؟ تصوري لو أن الناس لم يموتوا من عهد جدنا آدم وستنا حواء؛ كانت الحياة تصبح مصيبة كبرى، وأين هذه الأرض التي تحتمل كل هؤلاء؟ ومن أين يأكلون؟
تحية :
إذن فنحن لسنا سادة الحياة كما تقول!
مجدي :
بل نحن سادتها. إنما الحياة هي هذه الفترة الواقعة بين الولادة والموت، بل الحياة الحقيقية هي التي تبدأ مع الإدراك وتنتهي معه، فترة الإدراك هي الحياة، وهذه الحياة هي التي نتحكم فيها، أما منذ الولادة حتى الإدراك، فإن أبوينا وأهلينا هم من يتحكمون فينا، وأظنك توافقين على أنهم آدميون.
تحية :
أستغفر الله العظيم!
مجدي :
أستغفره من كل ذنب. ولكن ماذا قلت؟
تحية :
تزعم أننا نتحكم في الدنيا ولا تستغفر ربك؟!
مجدي :
إن ما أقوله هو غاية الإيمان. وهل يعقل أن يكون الأمر غير ذلك؟
تحية :
كيف؟
مجدي :
تصوري لو أنك قلت لخادمك: اكسر هذا الكوب، ثم كسره. أتراك تعاقبينه بعد ذلك؟
تحية :
لا طبعا.
مجدي :
فإذا كنت أيها الإنسان الحقير في عدلك تدركين ذلك، فكيف بالله مصدر العدالة؟ كيف يمكن أن يكتب علي أن أشرب الخمر ثم يعاقبني على شرب الخمر؟ لا بد أني مخير في أفعالي وإلا لما أوقع الله علي الجزاء.
تحية :
الله! مجدي أتكلمني عن الاختيار، ماذا؟ أتراك أصبحت فيلسوفا أيضا ؟ هذا ما كان ينقصك.
مجدي :
جزاك الله. القضية تنتظرني وأنت لا تسكتين.
تحية :
أنا التي لا أسكت؟ طيب اذهب، ولكن انتظر ...
مجدي :
ماذا؟
تحية :
سأذهب معك.
مجدي :
إلى المحكمة؟
تحية :
إلى إبراهيم.
مجدي (مصدوما) :
لا! اذهبي أنت في سيارة أجرة، أنا لا أطيق.
تحية :
لا تطيق؟! لا تطيق ماذا؟
مجدي :
لا أطيق انتظارك حتى تلبسي. القضية يا هانم، القضية. السلام عليكم. (يخرج وتجلس تحية سارحة بعض الوقت حتى تدخل سناء.)
سناء :
الله! ماذا جرى؟ أين مجدي؟
تحية :
ذهب إلى المحكمة؟
سناء :
صحيح، هو قال إنه سيستطيع أن يهرب ساعة من المحكمة ثم يعود.
تحية (سارحة) :
صحيح؟
سناء (في نفس النغمة) :
صحيح.
تحية :
سناء، أخوك عبقري!
سناء :
أعرف. وكان يجب أن تعرفي هذا من زمن بعيد.
تحية :
لو عرف كم هداني إلى أشياء في هذه الدقائق.
سناء :
هداك الله إلى الصراط المستقيم؟
تحية :
نعم، إلى الصراط المستقيم في حياتي. سناء، أنا خارجة.
سناء :
إلى أين؟
تحية :
إلى إبراهيم.
سناء (في يأس) :
إبراهيم! (ستار)
المنظر الثاني (المنظر غرفة طبيب غاية في الحقارة، بها سرير كشف خلف «برافان» قديم به قماش رخيص ومكتب قديم متهالك، الغرفة ذات باب واحد. التمورجي ينظف الحجرة في تراخ شديد وكسل.)
التمورجي :
والله الشعراء أحيانا لهم كلام حكم، العطار، العطار، آه العطار لا يفسد ما أصلحه الدهر. طيب ماذا تعمل الريشة أو الممسحة في هذه المكسرات؟ (يدق جرس الباب.)
التمورجي :
أهلا. والله زمان. (يخرج ويغيب لحظة ويعود مرة أخرى.)
التمورجي :
فرجت؛ جاء أول زبون، أول زبون، لا هو مضطر ولا هو مصاب في حادثة تحت العيادة، ولا هو صديق فقير، زبون، زبون خالص، زبون فقط بدون تعليق. (يدق جرس الباب مرة أخرى ويغيب لحظة ويعود)
زبون آخر! زبون ... (لا يكمل الكلمة لأن جرس الباب يدق)
لا، الجرس تعب، الشغل كثر مرة واحدة، وهو من زمان لا يشتغل، لا يمكن طبعا أن يكون زبون ثالث، أما لو كان؛ فإني سأترك الباب مفتوحا. (يخرج ويعود)
ماذا جرى؟ أيكون الدكتور اشتهر ؟ ولكن في يوم واحد يشتهر؟ أيكون ارتكب حادثة، والجرايد نشرت اسمه؟ متى ارتكب الحادثة؟ لقد كان هنا حتى الساعة الواحدة ظهرا، يا عالم، ماذا جرى؟! (ينظر من الباب)
زبون رابع، خامس، سادس، سا... الدكتور ... الدكتور ... الدك... (يدخل الدكتور؛ شاب في مقتبل العمر يلبس حلة قديمة يحاول جهده أن تظهر نظيفة ما دام لا يمكن أن تظهر أنيقة.)
الدكتور (لا يلتفت إلى رقص التمورجي) :
من هؤلاء؟
التمورجي :
زبائن.
الدكتور (مندهشا) :
من؟!
التمورجي :
زبائن، زبائن، والله زبائن. لا هم أصدقاء ولا هم مصابون تحت العيادة، ولا هم جيران، زبائن، زبائن.
الدكتور :
وماذا جاء بهم؟
التمورجي :
ربنا.
الدكتور :
كل هؤلاء؟
التمورجي :
كلهم. هيه نبتدئ يا دكتور؟
الدكتور :
نبتدئ.
التمورجي (يفتح الباب في زهو) :
الأول. أنت، تفضل. (يدخل الزبون ويكون الدكتور قد جلس إلى مكتبه بعد أن يكون قد أعد الكرسي أمام المكتب في احتفاء كبير.)
الدكتور :
أهلا، تفضل (يشير إلى الكرسي) .
الزبون :
زاد فضلك يا دكتور.
الدكتور :
نعم؟ خير.
الزبون :
والله يا دكتور لو كان خيرا ما جئت لك.
الدكتور (يغتصب ضحكة) :
إن شاء الله خير.
الزبون :
يا دكتور أنا عيان.
الدكتور :
طيب. أنا لا أنتظر أن تكون صاحب قضية!
الزبون :
المرض لازمني سنتين.
الدكتور :
عظيم. وما المرض؟
الزبون :
المرض؟
الدكتور :
نعم. المرض!
الزبون :
لا بد أن تعرف المرض؟
الدكتور :
طبعا.
الزبون :
أنا متزوج من عشر سنوات، ومنذ سنتين (يسكت) .
الدكتور :
أقول المرض!
الزبون :
المرض ... المرض ... لقد قلت لك المرض ... متزوج ... و... مريض.
الدكتور :
آه، فهمت، طيب، تفضل.
الزبون :
أين أتفضل؟ هل شفيت؟
الدكتور :
شفيت! كيف تشفى؟ إننا لم نعمل شيئا.
الزبون :
إذن فأتفضل إلى أين؟ هنا، عظيم.
الدكتور :
لا، تفضل على سرير الكشف.
الزبون :
ماذا؟ سرير ماذا؟ هل أنت أيضا لك سرير كشف؟ مصيبة!
الدكتور :
طبعا، لي سرير كشف.
الزبون :
آه، جائز. إنها أول مرة أجيء إلى دكتور مثلك.
الدكتور :
لا، أنت أعصابك منهارة.
الزبون :
يا سلام! أنا عارف هذا من أول دكتور.
الدكتور :
طيب، نم.
الزبون (مندهشا) :
وأنام أيضا؟!
الدكتور :
طبعا !
الزبون :
نمنا.
الدكتور :
اخلع البنطلون.
الزبون :
البنطلون؟! لا، أنت لست الدكتور، لا بد أنك دكتور نصاب مثل كل الدكاترة الذين شفتهم! لا يا سيدي حكاية خلع البنطلونات غلط أكيد!
الدكتور :
غلط؟! كيف أكشف عليك وأنت تلبس البنطلون؟!
الزبون :
ولماذا تكشف؟!
الدكتور :
وهل يمكن العلاج إلا بالكشف؟!
الزبون :
العلاج؟ أنت من إياهم إذن. يقولون دكتور منوم مغناطيسي وتقول علاج. أنت منوم أو دكتور؟
الدكتور :
منوم؟! أنا منوم؟!
الزبون :
طبعا. وهل كنت أجيء لك إلا وأنت منوم؟ أنا تركت الدكاترة من زمان بعيد، أنا أنهيتهم، أنهيتهم، فاهم، أنهيتهم على آخرهم.
الدكتور :
أي دكتور كنت تريده؟
الزبون (يخرج جريدة من جيبه) :
هذا، هذا الدكتور.
الدكتور (يقرأ) :
يعلن الدكتور طهستان المنوم المغناطيسي المشهور أنه نقل عيادته إلى شارع معروف رقم 12، وكل من يريد زيارته فليشرف في هذا العنوان، الأشخاص والأشياء الضائعة و...
الزبون :
أليس هذا شارع معروف؟
الدكتور :
لا، هذا شارع الشيخ معروف. ولكن أين طهستان من إبراهيم؟!
الزبون :
وكيف أعرف؟ أنت لا تعلق اسمك على بابك؟
الدكتور :
ولكني أعلقه على باب العمارة!
الزبون :
أنا سألت: الدكتور موجود؟ قالوا سيأتي، فدخلت. أما لافتتك على الباب فلم أقرأها؛ لأني لم أنتظر أن يكون الدكتور قد علق لافتة وهو لم ينقل إلا اليوم.
الدكتور :
وهل تنوي حقا الذهاب إلى الدكتور طهستان؟
الزبون :
أنوي؟ لقد نويت فعلا وجئت وسأذهب إليه في معروف والحاج معروف أو غير معروف، أنا ذاهب له على أي حال.
الدكتور :
أمرنا لله، مع السلامة.
الزبون :
سلامة؟! سلامة من؟ هات الخمسين قرشا.
الدكتور :
آه صحيح. يا حسن، يا حسن.
حسن :
نعم يا دكتور.
الدكتور :
هل أخذت خمسين قرشا من الأفندي؟
حسن :
طبعا، لماذا لا آخذ؟! أليست عيادة لها مصاريف؟!
الدكتور :
لا تطول، هات الخمسين قرشا.
حسن :
أمرك، تفضل.
الدكتور :
تفضل يا أستاذ.
الزبون :
مع الشكر يا أخ. سلام عليكم.
الدكتور (يجلس متهالكا على الكرسي) :
وعليك السلام، (ينظر إلى حسن)
رد إلى الزبائن ما دفعوه.
حسن :
لماذا يا دكتور؟! ترفض الرزق يا دكتور؟!
الدكتور :
اسمع الكلام يا حسن.
حسن :
أمرك يا دكتور (يخرج حسن) .
الدكتور :
أيها القدر، أيها القدر ... (يدخل حسن فرحا.)
حسن :
يا دكتور، الزبائن يرفضون، يتوسلون إليك يا دكتور أن تقابلهم.
الدكتور :
اخرج إليهم يا حسن.
حسن :
أحضرهم؟
الدكتور :
اخرج إليهم وسأكلمهم من هنا.
حسن :
أمرك يا دكتور. (يخرج حسن.)
الدكتور (يفتح الباب بينه وبين الزبائن) :
يا حضرات، أنا الدكتور إبراهيم محسن، طبيب باطني. إن كنتم تريدون الدكتور طهستان فهو في شارع الشيخ معروف. (يرى الزبائن ينصرفون واحدا بعد الآخر.) (يقفل الدكتور الباب ويتهالك على الكرسي.) (يدخل حسن.)
حسن :
انصرفوا جميعا يا دكتور!
الدكتور :
لم يبق أحد؟
حسن :
بل بقي.
الدكتور :
زبون؟
حسن :
والله يا دكتور، الله أعلم.
الدكتور :
الله أعلم بكل شيء. ولكن أنت ألا تعرفه؟ أهو زبون؟
حسن :
ومن أين أدري؟ لقد كنت أحسب كل هؤلاء زبائن!
الدكتور :
إنهم زبائن نعم يا حسن، ولكن فقط زبائن لشخص آخر، (ساخرا)
لدكتور آخر.
حسن :
أحضره يا دكتور؟
الدكتور :
أحضره يا حسن.
حسن (يفتح الباب) :
تفضل يا معلم. (يدخل شخص يلبس ملابس بلدية.)
الدكتور :
من؟ المعلم حسنين؟!
المعلم :
أنا يا دكتور.
الدكتور :
خير يا معلم؟ أنا آسف تأخرت عليك هذا الشهر.
المعلم :
الحقيقة يا بني أنا كنت أريد ...
الدكتور :
تريد ماذا يا معلم؟
المعلم :
أريد أن تكشف علي.
الدكتور :
أكشف عليك؟! لماذا يا معلم؟ كفى الله الشر.
المعلم :
الحقيقة يا بني ... الحقيقة ...
الدكتور :
الحقيقة أنك رجل طيب.
المعلم :
أشكرك يا دكتور، لكن والنبي تكشف علي يا دكتور.
الدكتور :
لا يا معلم. عمي سيأتي من البلد اليوم، وأظن أنه سيحضر لي القرشين بعدما باع القطن.
المعلم :
وما شأني يا دكتور بالقطن وعمك؟! المهم أنك تكشف علي.
الدكتور :
أنت تريدني أن أكشف عليك حتى لا تكون العيادة خالية، أليس كذلك يا معلم؟
المعلم :
لا حول الله يا بني! أنت دكتور وأنا عيان، وظيفتك أن تكشف علي، اكشف يا دكتور.
الدكتور :
أمرك يا معلم، مم تشكو؟
المعلم :
أشكو، أشكو، أشكو من صداع، نعم، صداع شديد ومغص، نعم مغص شديد.
الدكتور :
طيب يا معلم، قم إلى السرير.
المعلم :
أمرك يا بني. (يدخلان خلف البرافان.)
الدكتور :
نفس يا معلم، اثن رجليك، ظهرك. يا معلم، عظيم. (يخرج الدكتور.)
الدكتور :
ليس بك شيء يا معلم.
المعلم (وهو ما زال خلف البرافان) :
ما هذا الكلام يا دكتور؟! أقول لك صداع ومغص، وتقول ليس بك شيء؟ يا بني اكتب لي دوا، الله يفتح عليك.
الدكتور :
أمرك يا معلم (يكتب) .
المعلم (يخرج حافظة نقوده) :
أنا لي يا دكتور ستة وثلاثون قرشا وأنت لك خمسون قرشا، يكون الباقي لك أربعة عشر قرشا ها هي.
الدكتور :
يا معلم! هذا لا يصح، وهل يعقل أن آخذ منك؟!
المعلم :
والله والله، إن أم أولادي حرام علي إن لم تأخذ حقك.
الدكتور :
يا معلم الناس لبعضهم.
المعلم :
نعم لبعضهم.
الدكتور :
طيب خذ نقودك.
المعلم :
لا يا دكتور الحق حق، وأظن أيضا أنك لا ترضى أن أطلق أم حسين، ولو أنها أصبحت عجوزا (ويضحك) .
الدكتور (وفي عينيه بعض الدموع) :
أنت يا معلم حسنين يا جزار، أرق إنسان رأيته في حياتي.
المعلم :
الله يبقيك، هذا من ظرفك يا دكتور. سلام عليكم.
الدكتور :
وعليكم السلام يا معلم، مع السلامة. (يخرج المعلم.)
الدكتور (لنفسه) :
أيرضيك هذا أيها القدر؟ أيرضيك أن يتصدق علي الجزار؟! الرجل لا يشكو شيئا، ويجعلني أكشف عليه ليعطيني أجرة الكشف، راض أنت أيها القدر؟! حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل. (يدخل حسن.)
حسن :
يا دكتور، بالخارج رجل عظيم يسأل عنك.
الدكتور :
عظيم؟!
حسن :
عظيم جدا!
الدكتور :
دعه يدخل. (يدخل رجل يلبس الردنجوت ذو لحية كثة ويضع على رأسه عمامة كبيرة.)
الداخل :
السلام عليكم.
الدكتور :
وعليكم السلام. نعم.
الداخل :
أنا الدكتور طهستان.
الدكتور :
أهلا وسهلا، فرصة عظيمة يا سيد طه.
طهستان :
أقول لك أنا الدكتور.
الدكتور :
أهلا يا سيد طه.
طهستان :
يعني مصمم! على كل حال جئت لأشكرك.
الدكتور :
علام؟
طهستان :
على أنك أرسلت إلي الزبائن.
الدكتور :
هذا واجب يا سيد طه.
طهستان :
ومن أجل هذا جئت أقدم لك خدمة.
الدكتور :
خدمة؟!
طهستان :
نعم خدمة.
الدكتور :
وما هي؟
طهستان :
أنت ترسل إلي المرضى الذين تجدهم ضعاف الشخصية يمكن للتنويم أن يؤثر فيهم، وأنا أرسل لك المرضى الذين أجد بهم مرضا حقيقيا، ما رأيك؟
الدكتور :
عظيم.
طهستان :
اتفقنا؟
الدكتور :
اتفقنا. ولكن هناك مانعا بسيطا، اسمه الشرف.
طهستان :
دع الشرف إذن ينفعك. لقد رأيت اليوم بنفسك كيف امتلأت عيادتك بزبائني، وحين قلت لهم إنك لست الدكتور طهستان انصرفوا جميعا.
الدكتور :
وهل معنى تأثيرك في المغفلين أن أتفق معك؟
طهستان :
أنت تتفق مع سمسار، تقابل منافع يا دكتور، أي عيب في هذا؟! أنت تخدمني وأنا أخدمك، والناس لبعضهم.
الدكتور :
تقول لبعضهم؟! صحيح، ولكن للأسف أنت دجال.
طهستان :
لا، دجال هذه لم أعرفها. ولكنني أعرف أنني أملك العمارة التي أسكن بها، وأنت لا تستطيع أن تدفع أجرة الشقة التي تسكنها.
الدكتور :
وهل يغير هذا من الحقيقة؟
طهستان :
الحقيقة هي ما تملك.
الدكتور :
الحقيقة هي الواقع.
طهستان :
والواقع أنني غني وأنت فقير.
الدكتور :
والواقع أنني دكتور وأنت دجال.
طهستان :
تعال نخرج معا.
الدكتور :
إلى أين؟
طهستان :
إلى أي مكان يعجبك، إلى الشارع، إلى القهوة.
الدكتور :
وما السبب؟
طهستان :
لترى الحقيقة، لتعرف الواقع. إن النبي يقول: ألسنة الخلق أقلام الحق.
الدكتور :
إن النبي يتكلم عن ألسنة الخلق البريئة من النفاق، البعيدة عن التزلف، مهما يمدحك الناس أمامك، فإنهم حين تنصرف عنهم سيقولون: دجال. أما أنا فمهما قالوا عن فقري فلن يستطيعوا إلا أن يقولوا من ورائي وأمامي، إنني دكتور تعلمت، واجتهدت ووصلت.
طهستان (يضحك ضحكة ساخرة عالية) :
وصلت إلى أين يا دكتور؟ إلى أين وصلت؟ إلى عيادة في مكان كهذا؟ خالية إلا منك؟ وصلت يا دكتور؟ (يضحك)
اللهم لا تجعل أحدا يصل إلى ما وصلت إليه يا دكتور، أنت وصلت؟ فمن إذن الذي لم يصل؟ اسمع كلامي يا دكتور. الغنى، الشهرة.
الدكتور (في شبه تخاذل) :
الغنى، الشهرة.
طهستان :
إنها خدمة أريد أن أؤديها لك.
الدكتور :
وماذا تريد مني؟
طهستان :
لقد قلت لك.
الدكتور :
ماذا تفعل إذا أرسلت أنت الزبائن ولم أرسلهم أنا؟
طهستان :
يكون الدجال وفى بوعده، ويكون الشريف أخلف.
الدكتور :
وما دخل الشرف، وكلانا يسرق؟
طهستان :
نسرق؟! نحن نسرق؟!
الدكتور :
طبعا. إننا أكثر من لصوص، اللص يسرق المال أما نحن فنسرق الثقة، نسرق اعتقاد الناس فينا.
طهستان :
ولماذا؟ أنت دكتور، وأنا أرسل لك مرضى.
الدكتور :
هذا صحيح، ولكن هل أنا دكتور ماهر أو لا؟ هل تعرف هذا؟
طهستان :
على كل حال أنت دكتور، فثقة الناس في محلها. أنا لا أرسلهم إلى محام أو مهندس، إلى دكتور.
الدكتور :
عظيم. وأنا؟
طهستان :
دكتور.
الدكتور :
أعرف. ولكن ما موقفي أنا حين أرسل الناس إليك؟
طهستان (تظهر عليه الحيرة) :
أنت. أنت ترسلهم إلى منوم مشهور يا أخي.
الدكتور :
على كل حال يا أخي طه، أنا أشكرك لنيتك الطيبة، ولكني لا أستطيع.
طهستان :
الغنى، الشهرة.
الدكتور :
أنت لا تعرف كم أنا محتاج لهذا الغنى، ولكني لا أستطيع.
طهستان :
أنت حر. سلام عليكم.
الدكتور :
وعليكم السلام. (يخرج ويدخل حسن.)
حسن :
يا دكتور.
الدكتور :
خيرا يا حسن.
حسن :
ومن أين الخير؟ والله لو كان عندي ما تأخرت يا دكتور.
الدكتور :
ما هو؟
حسن :
الزبون، أقصد الخير.
الدكتور :
ماذا تريد إذن؟
حسن :
خطيبتك يا دكتور.
الدكتور :
خطيبتي؟
حسن :
خطيبتك.
الدكتور :
دعها تدخل.
حسن :
تفضلي يا ست هانم. (تدخل تحية وقد بدا عليها التجهم.)
الدكتور :
أهلا تحية.
تحية :
أهلا إبراهيم.
الدكتور :
ما لك يا تحية؟
تحية :
لا شيء. ولكني كنت أستمع إلى حديث طويل.
الدكتور :
عن؟
تحية :
عنك.
الدكتور :
عني أنا؟!
تحية :
ليس عنك أنت بالذات، عن الإنسان عموما.
الدكتور :
أهذا كل ما كان؟
تحية (في استخفاف) :
نعم. ونقاش آخر مع صديقة.
الدكتور :
وماذا قالت؟
تحية :
كلام بنات، ماذا تنتظر من بنتين تتكلمان؟
الدكتور :
أكاد أفهم.
تحية :
ماذا؟
الدكتور :
موضوع الكلام.
تحية :
يا أخي اترك هذا. ماذا عملت أنت؟
الدكتور :
فيم؟
تحية :
ماذا عملت بعد خروجك أمس؟ لاحظت أنك كنت زعلان.
الدكتور :
زعلان؟! لا، أبدا.
تحية :
لا، قل الحق.
الدكتور :
والله يا تحية أنا فعلا كنت زعلان، وما زلت.
تحية :
خيرا. جرى شيء؟
الدكتور :
وماذا يمكن أن يجري أكثر من هذا؟
تحية :
وما هو هذا؟
الدكتور :
سنتان الآن، وأنا خاطبك، وأنت تنتظرين حتى أجمع المهر. ماذا سنفعل؟
تحية :
أنا شخصيا لا مانع عندي أن أنتظر، ولكن أنت يجب أن تعمل.
الدكتور :
المسألة ليست مسألة مهر فقط، وإنما مسألة حياتنا بعد الزواج. كيف سنعيش؟
تحية :
الحمد لله، أبي غني وأعتقد أنه يستطيع ...
الدكتور :
أن يساعدنا؟
تحية :
وما البأس؟
الدكتور :
الله! الله! أنا أعيش عالة على والدك؟! أترضين هذا يا تحية؟!
تحية :
وماذا بيدنا يا إبراهيم؟
الدكتور :
بيدنا أن نقنع أباك بمسألة.
تحية :
الوظيفة؟
الدكتور :
نعم.
تحية :
لا تتعب نفسك، هذه مسألة أساسية.
الدكتور :
يا عالم! يا ناس! طبيب يريد أن يعمل في قصر العيني طبيبا، هل هذا عيب؟! هل هذا يضر بالشرف؟! هل هذا يسيء إلى السمعة؟! هناك بحث عظيم أقوم به بم أكون كسبت الشهرة.
تحية :
أنت تعرف أنه يكره الوظيفة ويكره سيرتها.
الدكتور :
ولكني أكره الفقر أيضا، وأكره سيرته. ماذا يمكنني أن أفعل؟ حالة العيادة تزيدني ارتباكا، أنا أخسر فيها ولا أكسب. حرام أن أتركك أكثر من هذا، أنا موقفي حرج جدا.
تحية :
لا بد لنا أن نتغلب على كل شيء.
الدكتور :
نعم ولكن، كيف؟
تحية :
سوف يأتي الصبح بعد الليل.
الدكتور :
لا بد أن تتحرك الأرض حتى يأتي الصبح.
تحية :
لا يمكن أن نصل إلى ما نأمل ونحن هادئون مستريحون بغير سعي. اعمل.
الدكتور :
أين؟ كيف؟
تحية :
أنت سلبي خالص يا إبراهيم.
الدكتور :
من أين يأتيني العمل؟ اسمعي يا تحية، أنا لا يمكن أن أرضى لنفسي هذا.
تحية :
ماذا؟!
الدكتور :
أن أحطم حياة الإنسان الوحيد الذي أحبه، لا يمكن أن أحطم حياتك، لا أستطيع أن أغشك، لا أمل مطلقا، لا أمل، ولا معنى أبدا أن تنتظري إنسانا فاشلا لا يستطيع أن يتحرر من فشله. لا يمكن.
تحية :
أحس في كلامك شيئا غريبا.
الدكتور :
اسمعي يا تحية، يجب أن تعرفي أنه لا أمل من زواجنا وأنا على هذا الحال.
تحية :
إنك بكلامك هذا تفسخ الخطوبة.
الدكتور :
إنني بكلامي هذا أنقذ مستقبلك. أخاف أن يطول بنا الطريق إلى الزواج، وأنت لم ترتكبي جرما حتى أجني عليك أنت أيضا، إن القدر وأباك يتعاونان على فشلي.
تحية :
لا يا دكتور، هذا الكلام له معنى آخر، وقد فهمته. إنك تفسخ الخطبة وإنني أقبل.
الدكتور :
لا، أنا لم أفسخها بعد، ولكنني سأحاول.
تحية :
إذن فأنا أفسخها يا دكتور (تخرج) .
الدكتور (مطرقا) :
أيها القدر، أيها القدر العنيد، أين أنت؟ (يدخل شخص من جدار الغرفة ويقف صامتا.)
أين أنت لأنتقم منك، أو لأسأل على الأقل لماذا تعاملني أنا دون سائر الناس هذه المعاملة الشائنة العنيفة؟ أيها القدر (يرفع رأسه)
من ...؟! من أنت؟!
الشخص :
أنا القدر.
الدكتور :
أتهزأ بي؟!
الشخص :
بل هذه الحقيقة.
الدكتور :
فهل القدر إنسان؟!
القدر :
كان لا بد لي أن أتخذ هذا المظهر حتى تراني ولا تخاف.
الدكتور :
فماذا تريد؟
القدر :
أنا، لا أريد شيئا. إنه أنت الذي تريد.
الدكتور :
أنا؟!
القدر :
نعم. ألم تقل أين أنت أيها القدر؟ لقد كنت شغوفا بك لدرجة أنني ظهرت لك بمجرد طلبك لي.
الدكتور :
فأنت تعلم إذن ما أردتك بشأنه.
القدر :
إنك تريد أن تنتقم مني، وهذا ما لا يمكن أن تفعله. ثم أنت تنازلت قليلا فأردت أن تراني حتى تعرف لماذا.
الدكتور :
نعم! لماذا؟ لماذا تفعل بي كل هذا؟ ولماذا اخترتني دون سائر الأطباء؟ دون سائر الآدميين حتى تجعلني في مثل هذه الحال؟
القدر :
إنه أنت، الضعيف الخامل.
الدكتور :
أنا خامل؟! ألم أكن الأول في كل سنين الانتقال في كلية الطب؟ ألم تكن أنت من أمرضني في امتحان السنة النهائية فنجحت بصعوبة؟
القدر :
وماذا كان مرضك؟
الدكتور (في تردد) :
ضعف أعصاب.
القدر (ساخرا) :
بمعنى آخر تخاذل، خوف، ضعف شخصية.
الدكتور :
ألم تكن أنت وحدك من جعل أبي فقيرا، لم يستطع أن يمدني بالمال؟
القدر :
إن فقر أبيك شيء تسأل عنه أجدادك حين تنشطوا في إنجاب الذرية واستناموا في نوال الرزق.
الدكتور :
ومن سواك الذي جعل أبا خطيبتي يخرج من الحكومة ساخطا عليها، فهو يأبى أن أدخلها، وجعل توظفي في الحكومة معناه فسخا لخطبتي؟
القدر (ساخرا) :
كلاكما أحمق. هو أحمق في تصرفه، وأنت أحمق لأنك قبلت هذا التصرف.
الدكتور (في استخذاء) :
وماذا ترى الآن؟
القدر :
إنك وحدك الذي تستطيع أن تنقذ نفسك.
الدكتور :
كيف؟!
القدر :
انظر في أمر نفسك. حدد العراقيل التي تقف في سبيلك، واعمل.
الدكتور :
ماذا أعمل؟
القدر :
اعمل لنجاح نفسك.
الدكتور :
خطيبتي، أبوها. (القدر يبتسم.)
الدكتور :
أعمل في الحكومة؟ (القدر يبتسم في رضا.)
الدكتور :
البحث الذي بدأته. إنقاذ الآلاف من الأمراض. الشهرة العلمية.
القدر :
لا تكثر من الكلام ولكن اعمل.
الدكتور :
آمال الشباب. أحلام المستقبل.
القدر (راضيا وهو يختفي في الجدار) :
حققها. واعمل. (ستار)
الفصل الثاني
(غرفة الجلوس في بيت تحية، وحمدي بك أبو تحية جالس إلى نجيب صديقه الموظف.)
نجيب :
والله يا حمدي بك اشتقت لك جدا فقلت أزورك.
حمدي :
متشكر جدا يا نجيب بك. هيه، وما أخبار المصلحة؟
نجيب :
يا سيدي من يوم ما تركتها أصبحت مفسدة، أصبحت مصلحة شخصية، أصبحت عزبة.
حمدي :
أعرف، أعرف يا نجيب بك. وهل يمكن أن تقول غير هذا؟! إنما أنا أسألك عن أخبارها فعلا.
نجيب :
والله كما تعرف، المدير الجديد غاضب دائما ولا أحد يكلمه ولا يكلم هو أحدا، والمصلحة ماشية أو واقفة، ولكن في صمت على الحالين.
حمدي :
وما لزوم الكلام يا أخي؟
نجيب :
نتفاهم، نعرف ما يعجبه وما لا يعجبه، تفاهم يا سعادة البك، تفاهم.
حمدي :
الحمد لله يا سي نجيب، تركنا الحكومة بكل ما فيها من دس ومن وقيعة، وبكل ما فيها أيضا من حقارة.
نجيب :
حقارة يا حمدي بك!
حمدي :
ماذا هل الكلمة غريبة عليك؟ نعم حقارة. وهل نفاق الموظفين إلا حقارة؟
نجيب :
ولكنني لا أنافق يا حمدي بك.
حمدي :
سبحان الله! وهل قلت لك إنك تنافق. كلهم ينافقون الوزير إن جاء، فإن لم يكن الوزير فهم ينافقون وكيل الوزارة، فإن لم، فهم يتعلقون بأسباب السكرتير أو الحاجب. نفاق، لم أعرف كيف أنافق فخرجت.
نجيب :
الواقع يا حمدي بك أن خروجك كان صلابة رأي منك فقط.
حمدي :
يا أخي هل عيب أن أحافظ على رأيي؟
نجيب :
لم تكن المسألة محافظة على رأي وإنما كان عنادا.
حمدي :
أي عناد؟
نجيب :
صممت أن تكون أمور المصلحة في يدك ولم ترض أن يرى وكيل الوزارة منها شيئا، وأعتقد أن له عليك حق الإشراف.
حمدي :
الإشراف غير التدخل في الشئون، في شئون المصلحة نفسها.
نجيب :
نهايته، لقد تركت الحكومة واسترحت من الوزير والوكيل والجميع.
حمدي :
إن شاء الله لن أكون في الحكومة مرة أخرى، أو في أي عمل يتصل بها.
نجيب :
أحسنت.
حمدي :
إنما عملت أكثر من هذا.
نجيب :
أكثر من هذا؟!
حمدي :
نعم. لقد حرمت زوج ابنتي من التوظف بالحكومة.
نجيب :
وما مهنته؟
حمدي :
دكتور.
نجيب :
ألم يشتغل بقصر العيني؟!
حمدي :
ولا هذا. لقد رفضت أن يتصل بالحكومة مطلقا.
نجيب :
وهل قبل؟!
حمدي :
طبعا قبل.
نجيب :
والنتيجة؟
حمدي :
النتيجة أنه دكتور صاحب عيادة عظيمة.
نجيب :
عظيمة!
حمدي (مترددا) :
عظيمة، نعم. إلى حد ما. (تدخل زوجة حمدي بك إجلال هانم.)
إجلال :
حمدي.
حمدي :
خيرا يا إجلال؟
إجلال :
أنا خارجة أزور علية هانم.
حمدي :
وما المناسبة؟
إجلال :
من غير مناسبة، زيارة عادية.
حمدي :
ما دام لا مناسبة فلا لزوم للزيارة.
إجلال :
ما معنى هذا؟
حمدي :
معناه ابقي معي.
إجلال :
إذن ...
نجيب (مقاطعا) :
تأذن لي أنصرف يا حمدي بك؟
حمدي :
لماذا يا أخي؟
نجيب :
والله عندي ميعاد. لا مؤاخذة.
حمدي :
أمرك يا سيدي. مع السلامة.
إجلال :
شرفت يا نجيب بك. مع السلامة. (يخرج نجيب.)
إجلال :
ما لك يا حمدي؟ كلما أحببت زيارة واحدة من صاحباتي منعتني؟
حمدي :
يا ستي أنا حر.
إجلال :
حر؟! نعم. ولكنك غير منطقي. ما معنى الحصار الذي تضربه علي في حين تترك تحية تخرج كما تريد وتدخل كما تشاء، ألا تلاحظ أن هذا شذوذ غير مقبول؟!
حمدي :
تحية أصبحت مسئولة من غيري.
إجلال :
من غيرك؟! من غيرك هذا؟
حمدي :
من خطيبها.
إجلال :
أهذا كلام؟
حمدي :
طبعا كلام.
إجلال :
يا سعادة البك الأب مسئول عن ابنته ما دامت في بيته.
حمدي :
لا يا ستي. أنا رأيي غير رأيك. ما دام خطيبها رجلا صالحا ولن يتركها فهو مسئول عنها منذ اليوم.
إجلال :
ومن أين عرفت أنه لن يتركها؟
حمدي :
قرأت معه الفاتحة.
إجلال :
يا سلام يا حمدي! أنت طيب جدا.
حمدي :
لا يا هانم أنا فاهم جدا.
إجلال :
أنت فاهم؟
حمدي :
جدا.
إجلال :
فهل فهمت أن تحية رجعت من الخارج غاضبة، وأنها تريد أن تفسخ الخطوبة؟
حمدي (مندهشا) :
ماذا؟! تفسخ ماذا؟!
إجلال :
الخطبة.
حمدي :
متى؟ كيف؟ لماذا؟ أين؟
إجلال :
اثبت يا رجل.
حمدي :
تفعل بي هذا؟ أنا حمدي العباسي، أنا الذي ركلت الحكومة برجلي، ابنتي تفعل بي هذا؟ ماذا يقول الناس؟ ماذا أفعل؟
إجلال :
صبرك يا حمدي، الأمور لا تؤخذ هكذا.
حمدي :
دبريني يا إجلال، ماذا أعمل؟
إجلال :
هدئ روعك، وانتظر حتى تكلمك في الموضوع.
حمدي :
وهل تنوي أن تكلمني؟
إجلال :
لقد طلبت مني أن أكلمك ولكني رفضت.
حمدي :
لماذا؟
إجلال :
لعلها تهدأ وتسكت، ولهذا طلبت أن أخرج حتى لا تلح علي.
حمدي :
ولكن لماذا؟ ألم تقل السبب؟
إجلال :
والله يا حمدي لم أسألها.
حمدي :
لم تسأليها؟ لماذا لم تسأليها؟
إجلال :
لأني أعرف السبب، أعرفه تماما.
حمدي :
وهو؟ (يدخل إبراهيم ويظهر القدر من خلفه، يلاحظ أن أحدا لا يرى القدر إلا إبراهيم.)
إبراهيم :
مساء الخير يا عمي، مساء الخير يا هانم.
حمدي :
مساء الخير يا بني. خيرا يا إبراهيم؟
إبراهيم :
خيرا يا عمي (مرتبكا) .
حمدي (مرتبكا) :
خيرا يا بني.
إبراهيم (مرتبكا) :
خيرا يا عمي.
حمدي :
أهلا وسهلا (يحاول أن يخفي ارتباكه) .
إبراهيم :
أهلا بك يا عمي.
حمدي :
من أين؟
إبراهيم :
من العيادة.
حمدي :
وكيف الحال؟
إبراهيم :
الحمد لله.
حمدي :
الحمد لله.
إبراهيم :
الذي لا يحمد على مكروه سواه.
حمدي :
ماذا؟
إبراهيم :
أقول يا عمي الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
حمدي :
أي مكروه يا بني كفى الله الشر؟
إبراهيم :
وهل بعد هذا مكروه؟
حمدي :
أفهمني يا بني أنا لا أفهم. (تدخل تحية.)
تحية :
أنا أفهمك يا أبي.
حمدي :
أفهمي.
تحية :
لقد كنت عند إبراهيم في العيادة واتفقنا على فسخ الخطبة؟
حمدي :
هو لعب عيال؟ تفسخين الخطبة من غير علمي؟!
تحية :
هذا ما حصل.
حمدي :
طيب أفهميني، ما السبب؟
تحية :
من غير سبب.
حمدي :
ماذا عملت يا إبراهيم؟
إبراهيم :
أنا يا عمي لم أفعل شيئا.
حمدي :
كيف؟
إبراهيم :
إنه أنت يا عمي الذي عمل، إنه أنت بيديك الذي فسخت خطبتنا.
حمدي :
أنا؟! أنا؟ ماذا عملت؟
إبراهيم :
إنه أنت (يتخاذل) .
القدر :
تشجع، قل، انطق.
إبراهيم :
نعم يا حمدي بك، إنه أنت الذي فسخ خطبتنا، أنا لا أستطيع الاستمرار على هذه الحال.
حمدي :
أي حال؟! أفهمني يا أخي. ما هذه الألغاز؟ (في عنف)
انطق.
إبراهيم :
العيادة، (مترددا)
العيادة.
حمدي :
هه؟ ما لها العيادة؟
القدر :
يا أخي انطق، قل. ما لها العيادة؟
إبراهيم :
العيادة لا تأتي بإيجارها.
القدر :
أكمل. وماذا أيضا؟
إبراهيم :
نعم لا تأتي بإيجارها ولا تفي بحاجتي الشخصية و... و...
القدر :
أكمل، أكمل.
إبراهيم :
نعم. وبطبيعة الحال لا يمكن أن أجمع منها المهر.
حمدي :
عظيم. ما شأني أنا بهذا جميعه؟
إبراهيم (مرتبكا) :
ما شأنك ...؟ ما شأنك ...؟
القدر :
ما لك ارتبكت؟ انطق. شأن من إذن إن لم يكن شأنه؟
إبراهيم :
نعم. شأن من إذن إن لم يكن شأنك؟
حمدي :
شأني أنا؟
إجلال :
ألم تفهم يا حمدي؟
إبراهيم :
يا عمي. لا بد أن أصرح لك. يا عمي.
القدر :
انطق.
إبراهيم :
لا بد أن أعمل في الحكومة.
حمدي :
آه، الآن فهمت. مؤامرة مدبرة من خلفي، أنت وتحية، بل وإجلال أيضا!
تحية :
لا يا أبي.
حمدي (ثائرا) :
أي لا؟ لقد دبرتم المؤامرة ولكن، هيهات أن تنجح، أسمعتم؟ هيهات أن تنجح مؤامرتكم.
إجلال :
يا حمدي، المسألة مستقبل بنتنا.
حمدي :
تماما. مستقبل بنتنا، ولهذا لا أريد أن أهدمه، موظف حكومة، يعني عبد، أنا لا أزوج ابنتي من عبد.
إجلال :
لا تنس يا حمدي أنك بقيت عشرين سنة موظفا بالحكومة.
حمدي :
نعم بقيت عشرين سنة عبدا، لقد خرجت من الحكومة فتلقفتني الشركات، تركت مرتب مائة جنية لأكسب خمسمائة جنيه في الشهر الواحد.
إجلال :
ولكن إبراهيم لا يستطيع أن يكسب هذه المبالغ، فماذا يعمل؟
حمدي :
يعمل ما يعجبه. لا شأن لي بهذا. أنا أزوج ابنتي لرجل لا يعرف المكان الذي يستقر به! هو اليوم في أسيوط، يصبح غدا في أسوان، وبعد غد في الإسكندرية. لا يا سيدي، ابنتي لا بد أن تبقى بجانبي، ابنتي الوحيدة يا أخي.
إجلال :
هذا هو السبب؟
حمدي :
لا يا ستي. من قال؟ من قال إن هذا هو السبب؟ هناك ألف سبب وسبب. أنا أزوج بنتي من رجل محكوم عليه بالنفاق والكذب والتضليل؟! أنا أزوج ابنتي من رجل لا يعرف مصير نفسه؟! لا يا ستي، لا يمكن.
إبراهيم :
يا عمي المسألة ليست بهذه الخطورة. أنا سأعمل في الحكومة مدة سنة واحدة ثم أستقيل.
حمدي :
قديمة يا حبيبي. سنة تجر سنة، وتبقى في الحكومة، أنا عارف حلاوتها يا سيدي، مرتب بلا عمل، اللهم إلا النفاق، والتزلف، والترامي على أعتاب المدير والوزراء.
إبراهيم :
إذن تصرف يا عمي، أرشدني ماذا أعمل؟
حمدي :
أنت دكتور، طبيب، صاحب مهنة، بل لعلك صاحب أشرف مهنة عرفها التاريخ، تريد أن تقتل مهنتك؟ تقضي على علمك؟
إبراهيم :
يا سيدي إن بقائي في عيادتي هو القضاء على مهنتي وعلى علمي، بل هو القضاء على مستقبلي.
إجلال :
يا حمدي غير معقول! إن تمسكك برأيك يقضي على مستقبل اثنين، أحدهما بنتك، بنتي.
حمدي :
لا يا هانم. القضاء على مستقبلها يكون بزواجها من موظف حكومة، لن يكون هذا، لن يكون هذا أبدا. (يدخل مجدي.)
مجدي :
السلام عليكم.
أصوات :
السلام.
مجدي :
خيرا جماعة. ما لكم؟
إبراهيم (غير ملتفت لمجدي) :
يا عمي إن منعي من التوظف ... إن منعي من التوظف ...
القدر :
انطق.
حمدي :
ليكن ما يكون، أنا يا أخي لا أمنعك من التوظف، ولكنني أمنع زوج ابنتي من التوظف، أنا يا أخي لا أزوج بنتي من موظف ولو ظلت بلا زواج.
مجدي (مندهشا) :
بلا زواج!
إبراهيم :
إذن يا عمي.
القدر :
انطق.
إبراهيم :
إذن يا عمي أن مضطر لأن أخبرك أنني سأتوظف بالحكومة مهما كانت الموانع. سلام عليكم (يخرج ويخرج القدر من خلفه) .
حمدي :
أنت حر. (ترتمي تحية على الكرسي باكية.)
حمدي :
ابكي ما شئت، لن أغير رأيي من أجل خاطرك. هه، (يترك مكانه)
عندما تفرغين دموعك قابليني، أنا في حجرتي (يترك المسرح) .
إجلال :
ظلمت البنت يا حمدي، حسبنا الله ونعم الوكيل (تخرج) . (لا يبقى بالمسرح غير مجدي وتحية.)
مجدي :
تحية، اعقلي، البكاء لا يفيد شيئا.
تحية :
ماذا أعمل؟ ماذا أعمل؟
مجدي :
اعملي أي شيء إلا البكاء، فلا أعتقد مطلقا أن دموعك ستفيد.
تحية :
يا أخي يا مجدي اتركني بعض الوقت.
مجدي :
أنا مستعد أتركك كل الوقت، لكن ما الفائدة؟ (تحية تبكي.)
مجدي :
عظيم. ابكي. ابكي كما تشائين. ولكن أنا سأذكر لك نظرية علمية استنتجتها أنا بالاستقراء. (تحية تبكي.)
مجدي :
ألا تسألين عن هذه النظرية؟
تحية :
يا أخي، أرجوك.
مجدي :
أقولها لك من غير سؤال. ثبت فعلا من الإحصاءات والاستقراءات التي قمت بها أنا شخصيا، أنا الأستاذ مجدي رفعت المحامي الشهير، شهير جدا والله، ألم تقرئي الصحف اليوم؟ لا، أنت متأخرة جدا.
تحية :
أرجوك يا مجدي، أرجوك يا أخي.
مجدي :
طيب، أسكت، (يسكت قليلا) ، لكن كيف أسكت قبل أن أذكر لك النتيجة العلمية التي وصلت إليها؟ ثبت يا سيدتي من كل ما تقدم أن البكاء عديم الفائدة في إرجاع ما يبكى عليه، فلو أن إنسانا وقع على الأرض فجرح فبكى بدلا من أن يذهب إلى الحكيم لتقيح الجرح رغم هذا البكاء، ومهما قلنا عن هذا الجرح إنه قليل الأدب لا يرحم دموع العذارى أو غير العذارى، حتى ولو كان هذا الباكي رجلا عظيما نابغة، ومهما قلنا عن هذا الجرح إنه قليل الذوق، فإن هذا جميعه لا يمنعه من التقيح كما قدمت، وإذا ترك لشأنه بعد ذلك لازداد سوءا على سوء، ولن يوقف هذه الحالة إلا أن يذهب صاحبه إلى الدكتور؟
تحية :
ألا ترى يا مجدي هذا الكرب؟ ومع هذا تضحك وتهزل، وكأن الأمر لا يهمك في شيء.
مجدي :
لا يهمني أنا يا تحية، أنا؟ فمن يهتم بك إذن إذا لم أهتم أنا؟ أنت عندي الدنيا كلها يا تحية.
تحية :
كلام.
مجدي :
بل حق والله. أنا لا أتكلم، وإنما هي يا تحية ومضة من إشراق يملأ نفسي. أنت يا تحية كل شيء لي. أنت أملي، أملي الذي كان لي منذ كنا أطفالا في الشارع. من أجلك تعلمت ومن أجلك كنت الأول في كل مراحل تعليمي. ومن أجلك أرغمت المال أن يتدفق في يدي والشهرة أن تصبح لي.
تحية :
مجدي، أنا آسفة.
مجدي (وقد صحا من خياله) :
آسفة؟ أنت آسفة؟ أتعلمين منذ كم سنة أريد أن أقول هذا الكلام؟ أتذكرين يوم كنا نلعب الكرة في الشارع ووقعت وجرحت واهتممت أنت بالجرح؟ لعلك لا تذكرين؛ لأن رعاية الناس شيء في طبيعتك، ولعلك لا تذكرين لأنه من الطبيعي أن تهتمي بجرح ابن خالتك ولكن أنا أذكر، ولن أنسى. أردت أن أقول لك يومذاك إنني سأكون أعظم إنسان في العالم من أجلك، وكنت أظن يومذاك أن أعظم إنسان في العالم هو الضابط، ثم رأيتك لا تهتمين بالمظهر قدر اهتمامك بالحقيقة، ورأيتك عقلا مشرقا وعاطفة تشف، فقلت هو العلم ما تريد فكنت الأول، وكنت الأول في الليسانس، وخلتني يومذاك أستطيع أن أقول لك ما قلته الآن؟ ولكنني في طريقي إليك بعد أن عرفت النتيجة، وبعد أن عرفت أنني الأول وبعد أن عرفت أنني سأعين معيدا في الكلية، في طريقي إليك بعد أن عرفت هذا جميعه سمعت اثنين يتحادثان فإذا أحدهما يقول للآخر: وما الشهادة العالية؟ ورقة لا قيمة لها، المهم هو المال. لم أكمل طريقي وإنما عدت إلى الكلية، واعتذرت عن العمل بها، واشتغلت بالمحاماة وانقطعت عن زيارتك إلا نادرا حتى لا تكشفي ما أحاول أن أخفي. كنت أعمل يومي كله فلا أنام، وكنت أظل مع القضية الخاسرة حتى تصبح رابحة، وكنت شريفا فيما أقبل من القضايا، وحين وصلت إلى المال، وإلى الشهرة، وحين كنت في طريقي إليك لأقول لك ما قلته الآن عرفت أنك خطبت، فلم أقل؛ وأصبحت أعمل لأنسى لماذا كنت أعمل قبل أن يخطبك الدكتور، كنت حزينا أعرف أنك سبب حزني، وما كان لي أن أغضب منك فأنا لم أقل لك شيئا، وكنت حاقدا على خطيبك ولكنني ساخط على حقدي، فالرجل بريء لم يكن يعرف ما بنفسي، ولم أعرف شعورا أقسى من الغضب على إنسان تعرف أنه بريء، والحقد على آخر تعلم أنه لم يسئ إليك. أنت، أنت لا يحق لك أن تكوني آسفة، إنني أنا الآسف، والآسف دائما.
تحية :
مجدي، مجدي، إن إنسانا في العالم لا يمكن أن يقول شيئا يسبب هذه الحيرة التي أوقعتني فيها الآن. هل أفرح؟ ولماذا لا؟ فإنك من أجلي قد أصبحت الأستاذ مجدي رفعت المحامي المعروف، والغني الكريم، والأديب الكبير، ولكن من أجلي أنا أيضا أحسست بالفقر والحزن في أسعد أوقات حياتك؛ أحسست به يوم كنت الأول في تخرجك، وأحسست به يوم نلت الغنى ولم تستطع أن تنال يد من تحب، وأصبحت شهيرا ولكن من تحب، ولكن أنا، لم ألتفت إلى هذه الشهرة!
مجدي :
لم يكن الغنى ما أردت، ولم تكن الشهرة ما سعيت إليه، إنما أردتك أن تسمعي أنت عني من غيري، تلك هي الشهرة التي أردتها لنفسي؛ كتبت في كل الجرائد والمجلات لتقرئي اسمي فقرأته، ولكن كنت ابنة خالتي وأنت تقرئينه ولم تكوني أبدا حبيبتي، كنت تهنئينني على مقالاتي وكتبي وكنت تفرحين بها وبي ولعلك أيضا كنت تعتزين بها وبي، ولكنك أبدا لم تحسي أنها منك أردتها أن تكون إليك فأخطأت الطريق. (تحية تبكي بكاء شديدا.)
مجدي (وكأنما يصحو) :
يا أستاذة أنا مضطر أن أذكر لك نظريتي مرة أخرى؛ ثبت أن البكاء لا يفيد.
تحية (تقاطعه بضحكة يشوبها البكاء وتقول بصوت يختلط فيه البكاء بالضحك) :
فهمنا يا أستاذ، فهمنا.
مجدي :
عظيم. وأذكر لك نظرية أخرى؛ إن فهم النظريات أمر يختلف كل الاختلاف عن تطبيقها، ولا بد لك حتى تظهري فهمك للنظريات أن تطبقيها.
تحية :
ولكن يا سيد مجدي نظريتك هذه عليها اعتراض صغير.
مجدي :
وهو؟
تحية :
إن الإنسان في أغلب الأحيان يعمل أشياء يعرف أنها لا تفيد، بل وتضر، ومع ذلك يعملها.
مجدي :
مثل؟
تحية :
مثل هذه السيجارة التي تشعلها، تضر ولكنها تريح الأعصاب. وكذلك البكاء لا يفيد ويضر ولكن يريح الأعصاب.
مجدي :
لا يا أستاذة، نظريتي لم تغفل هذا الاعتراض؛ البكاء عند اليأس راحة، ولا بد منه في هذه الأحوال، وإن نظريتي تحبذه وتوصي به، وترغم عليه في بعض الأحيان، ولكن أين نحن من اليأس؟
تحية :
هيه يا مجدي، وهل بعد هذا يأس؟ أما رأيت بعينك، أبي مصمم وإبراهيم مصمم، وبين التصميمين يأس، يأس كامل.
مجدي :
اليأس لا يكون في تصميم خطيبك أو والدك، إنما اليأس يكون في نفسك، وطبيعي أن نحس به الآن بعد هذه المناقشات الطويلة، ولكن بعد دقائق نبتدي نفكر ونوجد من اليأس رجاء.
تحية :
الظاهر يا مجدي أنك متفائل جدا؟ الخطبة انفسخت يا حبيبي.
مجدي :
يا سلام! وإذا انفسخت ألا تعود؟ انفسخت آمنا، ولكن من قال لك أن لا سبيل إلى عودتها؟
تحية :
يا سيدي واحد سيعين اليوم بالحكومة ويبقى بها على الأقل سنة.
مجدي :
ثم يعود.
تحية :
ألم أقل لك إنك متفائل؟ وهل تظن أن أبي سينتظر هذه السنة؟ إن أول من يطلبني منه سيقبله.
مجدي :
أنت تحبين إبراهيم يا تحية؟
تحية (سارحة) :
أحبه؟ أحبه؟ (وكأنما أفاقت فجأة)
بل أكرهه، رجل يفضل الوظيفة عني، ويتركني.
مجدي :
آه، انتظري. هو لم يفضل الوظيفة، وإنما خاف على مستقبله.
تحية :
أيخاف على مستقبله إن تزوجني؟
مجدي :
آه من النسوان. أنت عارفة أن زواجك لا صلة له بمستقبله، إن زواجك لن يأتي له بالمال، ولا بد من المال حتى يوفر لك السعادة.
تحية :
ولكن الأمر كان سهلا عليه، استطاع أن يختار في لحظة. هو لا يحبني.
مجدي :
فعدم حبك له ناتج إذن عن عدم حبه هو لك؟ (تحية تومئ برأسها له .)
مجدي :
فأنت تكرهينه؟
تحية (في حزم) :
نعم.
مجدي :
إذن، فأنا أخطبك.
تحية (تتهاوى على الكرسي) :
مجدي ...؟ أنت ...؟ الآن؟
مجدي :
ولماذا لا؟ قلت إن أباك سيقبل أي خاطب، وأعتقد أنني أحسن من الغريب؟ وقلت إنك لا تحبين إبراهيم. وأعتقد أنك تستطيعين أن تحبيني؟
تحية :
اسمع يا مجدي، أنا أعرف منذ سنوات أنك تحبني؛ إن كلامك الذي لم تقله سمعته أنا من عينيك، لم أسمعه كله، ولكن سمعت بعضا منه، ولكني أقفلت عيني وأذني لأنني أحببتك أخا، ولم أرد أن أفقد هذه الأخوة بالزواج. أريدك يا مجدي أخي فأنا لا أخ لي.
مجدي (ساخرا) :
ولكنك لا زوج لك أيضا، فلماذا لا تقبلينني زوجا وأخا؟
تحية :
إنه لا يمكن للأخ أن يصبح زوجا.
مجدي :
ليس هناك حب أخوي يمنع الحب الزوجي.
تحية :
المسألة ... المسألة ...
مجدي :
المسألة أنه لا يمكن للقلب أن يشغل بأكثر من واحد.
تحية :
ماذا تعني؟
مجدي :
أعني أنك تحبين إبراهيم.
تحية (في تخاذل) :
نعم، أحبه.
مجدي (مقلدا صوتها) :
نعم، أعرف.
تحية :
والنتيجة؟
مجدي :
اقبلي خطبتي.
تحية :
ماذا؟!
مجدي :
اقبلي خطبتي.
تحية :
هل جننت؟!
مجدي :
جائز، قد أكون مجنونا في بعض الأحيان، ولكنني الآن - على ما أعتقد - أعقل مخلوق على وجه البسيطة والمركبة أيضا.
تحية :
لا أفهم.
مجدي :
أنت تحبين إبراهيم، وإبراهيم محجوز لمدة سنة في وظيفة، وأبوك لا يزوجك من موظف، وأبوك سيزوجك من أول خاطب، وأنت خائفة أن يأتي الخاطب في بحر السنة، ويضيع إبراهيم إلى الأبد.
تحية :
وأين الجديد في هذا؟
مجدي :
أنا.
تحية :
أنت ماذا؟
مجدي :
أخطبك.
تحية :
تخطبني؟
مجدي :
أخطبك لمدة سنة.
تحية (فرحة مندهشة) :
مجدي!
مجدي :
وما البأس؟ أولا أنا فقدت الأمل في حبك غير الأخوي، وأنا أحب أن أكون معك دائما؛ أخطبك سنة أبقى معك فيها أطول وقت ممكن، وبعد السنة أعيدك إلى الأستاذ إبراهيم.
تحية :
ولكن، هذه الوضع؟ ألا يؤلمك؟
مجدي :
بالعكس؛ فمسألة التضحية من أجل الحبيب هذه مسألة يظهر عليها أنها مريحة فعلا، وطالما كنت أحلم أن أراك في مصيبة، مصيبة كبيرة وأتقدم فأنقذك منها، ثم أموت، وها هي أحلامي تتحقق، وإن كانت المصيبة صغيرة، وإن كنت أنا لن أموت، ولكن لا بأس.
تحية :
مجدي ...؟ أنت ...
مجدي :
أنبل مخلوق في العالم، عارف. ولكن اعلمي يا حبيبتي، يا خطيبتي، أن أي إنسان في العالم لا يقدم الجميل إلا وينتظر من ورائه خيرا لنفسه، وأقل هذا الخير أنه يحس بالسرور وهو يقدم هذا الجميل، وأنا أحس بهذا السرور، وهكذا ترى أن المسألة لا نبل فيها ولا كرم أخلاق، أنا أقوم بعمل أنا مبسوط منه.
تحية :
مجدي ... مجدي ... أنت ... أنت ...
مجدي :
خطيبك. (تدخل الأم وتسمع هاتين الجملتين الأخيرتين.)
إجلال :
مجدي ... صحيح ...؟ صحيح يا تحية ...؟
تحية (في فرح غامر) :
صحيح ... صحيح.
إجلال :
أحمدك يا رب، أحمدك يا رب. (تجلس على الكرسي وكأنما تخشى السقوط من الفرح.) (ستار)
الفصل الثالث
(الدكتور إبراهيم في غرفة متواضعة فيها لوازمه فقط والدكتور يقرأ في استغراق عميق حين يفتح الباب ويدخل منه صديقه الدكتور لطفي.)
إبراهيم :
هيه يا لطفي؟
لطفي :
يا شيخ ابعد عني.
إبراهيم :
خيرا؟
لطفي :
ومن أين الخير؟ قلت لك لا فائدة ما دام هذا الدكتور يحسدك، ويأبى عليك أن تعمل.
إبراهيم :
يحسدني؟!
لطفي :
طبعا.
إبراهيم :
لماذا؟!
لطفي :
أما إنك رجل طيب. كيف لا يحسدك وأنت منذ دخلت المستشفى والمرضى لا يطلبون إلا أنت؟
إبراهيم :
وما ذنبي أنا يا أخي؟ قرأت كثيرا ودرست، والمريض في نظري محتاج يطلب العون على الشفاء وأنا أبذل جهدي واهتمامي وأعصابي، المريض عندي ليس عملا حكوميا أؤديه، ليس مذكرة أوقع عليها، لا، إنسان، أخي، يريدني.
لطفي :
عظيم، عظيم. ولكن من يمكنه أن يصل إلى عقل الدكتور أو إلى قلبه ليفهمه هذا. وليجعلك تستعمل المعمل.
إبراهيم :
والله لو كان ألف دكتور في بعض لما استطاع أن يمنعني عن أبحاثي.
لطفي :
عظيم. ولكن ماذا تعمل؟
إبراهيم :
أعمل ...
لطفي :
أين؟
إبراهيم :
أين؟ هنا.
لطفي :
هنا؟! وأين المعمل هنا؟
إبراهيم :
أصنعه، أنشئه.
لطفي :
هنا؟ وكيف؟
إبراهيم :
لطفي، أنت لا تعرف ضرورة هذا البحث لي، أمل كبير متعلق بي ، لا بد أن أحققه.
لطفي :
أمل كبير؟
إبراهيم :
أمل كبير، وتضحية كبرى تقدم إلي من شخصين حبيبين لي.
لطفي :
طيب، وماذا تعمل؟
إبراهيم :
أنا آخذ كم مرتبا؟
لطفي :
خمسة عشر جنيها.
إبراهيم :
إيجار بيت جنيهان.
لطفي :
عظيم.
إبراهيم :
أكل وشرب ونور أربعة جنيهات.
لطفي :
أربعة جنيهات؟!
إبراهيم :
الفول العجيب فقط لا غير. والجنيهات التسعة أقساط لمن يصنع لي معملا هنا.
لطفي :
تسعة جنيهات؟!
إبراهيم :
قليلة؟
لطفي :
نبحث.
إبراهيم :
نبحث؟ لا وقت عندنا للبحث، قل نفعل.
لطفي :
وأين تعمله؟
إبراهيم :
هنا، في هذه الحجرة.
لطفي :
وأنت؟ أين تنام؟
إبراهيم :
والله فكرة، أنا سأبيع السرير، وهذه المكسرات. أنا لا أحتاج لغير دكة صغيرة أنام عليها.
لطفي :
البحث خطير يا إبراهيم!
إبراهيم :
نعم خطير، إنقاذ أرواح من الأمراض، لا بد أن أعمل.
لطفي :
كان الله في عونك.
إبراهيم :
إنني في شهرين قطعت أكثر من نصف المرحلة.
لطفي :
عظيم.
إبراهيم :
هيا بنا ننزل.
لطفي :
إلى أين؟
إبراهيم :
شيء عجيب! نصنع المعمل.
لطفي :
لا يا عم، أنا لا أستطيع ملاحقتك.
إبراهيم :
ضعيف، خامل.
لطفي :
الله! ماذا جرى؟ تشتمني؟
إبراهيم :
أنا لا أشتمك، بل أصفك.
لطفي :
أكرمك الله يا أخي، هيا ننزل، ننزل قبل اعتذار آخر. (يخرجان من المسرح ويبقى المسرح خاليا بعض الوقت ثم تدخل تحية ومجدي.)
تحية :
إبراهيم.
مجدي :
ليس هنا.
تحية :
ويترك الباب مفتوحا؟
مجدي :
وعلام يخاف؟
تحية :
يا أخي دائما تهذر؟
مجدي :
وما له؟
تحية :
ألا تقدر الموقف الذي نقفه؟
مجدي :
موقف عظيم.
تحية :
عظيم؟
مجدي :
جدا.
تحية :
أبي يريد أن يكتب الكتاب وتقول موقف عظيم؟!
مجدي :
وما البأس يا سيدتي في أن يكتب كتابي عليك؟
تحية :
لا، مجدي. وحياتك أنا لا أحتمل الألغاز الآن.
مجدي :
يا تحية، إنها ليست ألغازا! إنها مسائل واضحة.
تحية :
واضحة؟!
مجدي :
إبراهيم أمام الطريق الطويل، ثم أعتقد أنني شاب لا بأس بي.
تحية :
آه، إذن بدأت ترجع في المعروف الذي تسديه؟
مجدي :
وأنا؟
تحية :
مجدي، أنا آسفة. أنا مقدرة الألم الذي تحس به، ولكن ...
مجدي :
نعم ؟ ولكن ماذا؟
تحية :
أنت تعرف.
مجدي :
الحب؟
تحية :
وما له الحب؟ أليس شيئا كبيرا؟ أليس جديرا بكل تضحية؟
مجدي :
أعتقد أنه جدير، جدير، أمري إلى الله، إذن فدبريني، ماذا أفعل في مسألة كتب الكتاب هذه التي ظهرت أعراضها أخيرا على المحترم أبيك؟
تحية :
تذكر أنك تتكلم عن أبي.
مجدي :
هذا موضوع لا يحتاج إلى تذكر، أنا عارفه.
تحية :
عظيم.
مجدي :
جدا.
تحية :
لست أدري ما الذي يجعله يسرع بكتب الكتاب معك أنت مع أنه كان صبورا غاية الصبر مع إبراهيم؟
مجدي :
أولا، أبوك رجل نبيل، وكان يعرف ظروف إبراهيم كما يعرف ظروفي؛ إبراهيم كان يكون نفسه وأنا تكونت، وثانيا الست والدتك بالصدفة خالتي فهي تستطيع أن تفاتحني في الموضوع دون حرج، بينما لا تستطيع مفاتحة إبراهيم.
تحية :
يعني يا سيدي كان لا بد لك أن تتكون هكذا سريعا، وكان حتما أن تكون ابن خالتي أنت الآخر؟
مجدي :
والله هذه مسألة فاتني أن أدبرها قبل أن أتقدم لخطبتك، آسف، أقصد لحجزك.
تحية :
النهاية، ماذا سنفعل؟
مجدي :
أنا شخصيا عاجز.
تحية :
كذاب.
مجدي :
ولماذا؟
تحية :
كذاب لأنك لا تريد أن تفكر في حل، أنت مبسوط من هذا العارض الذي منعك من إكمال تضحيتك.
مجدي :
مبسوط أو زعلان مسألة لا أهمية لها في الموضوع، المهم أن نصل إلى حل.
تحية :
لو فكرت معي لوصلنا إلى حل.
مجدي :
أقسم لك إنني أفكر.
تحية :
على كل حال أنا أعذرك لأنك لا تستطيع أن تكون مخلصا في التفكير.
مجدي :
ويوم فكرت في حجزك، ألم أكن مخلصا في التفكير؟
تحية :
كنت متأثرا بحزني و... و... وبأشياء أخرى، فأومضت الفكرة في ذهنك وبدافع من الطيبة لم تستطع أن تحبسها.
مجدي :
والآن؟
تحية :
والآن تفكر في روية وهدوء، وتستبعد الفكرة التي تراها ضد مصلحتك، وتقيم أمامها كل العوائق والعراقيل.
مجدي :
طيب يا أختي أصبحت طبيبة علم نفس على آخر الزمن.
تحية :
طبعا. الحقائق المختفية تؤلم إذا ظهرت.
مجدي :
كلام فارغ، وشرفك كلام فارغ.
تحية :
أنا لا أنتظر أن تقول عنه مليان. وإن كان قسمك بشرفي لا لزوم له.
مجدي :
آسف.
تحية :
العفو. (يسمع طرق على الباب.)
تحية :
تفضل. (يدخل رجل يحمل أسبتة فيها زجاجات وأوعية.)
الرجل :
أهذا بيت الدكتور إبراهيم؟
تحية :
نعم.
الرجل :
ولكنه لم يقل إنني سأجد أحدا.
تحية :
لا بأس نحن أصدقاء.
الرجل :
لقد أرسلني أحمل هذه الأدوات.
تحية :
وأين هو؟
الرجل :
قال إنه سيأتي بعد قليل.
تحية :
وما هذه الأدوات؟
الرجل :
للمعمل.
تحية :
طيب. ضعها هنا.
الرجل (يضع الأشياء) :
وأنا؟ أين أنتظر؟
تحية :
بجانب الباب. سأعمل لك فنجان قهوة.
الرجل :
شكرا، لا أشربها.
تحية (تتنهد في ارتياح وتقول لنفسها) :
الحمد لله. (يخرج الرجل.)
مجدي :
معمل؟! هنا؟! في هذه الحجرة؟!
تحية :
لا بد أنه ينوي إقامته هنا وإلا ما أرسل الرجل وطلب منه أن ينتظره.
مجدي :
والله شيء يفرح.
تحية :
انقلب. أصبح إيجابيا. صمم أن ينجح.
مجدي :
وسينجح.
تحية :
الحمد لله.
مجدي :
ولكن من أين له المال؟
تحية :
لا بد أن أساعده بكل قوتي.
مجدي :
لا، حذار أن تفعلي. هو يريد النجاح بيده وحده لا يريد يدا أخرى تساعده.
تحية :
ولكنه يقبل مساعدتك أنت في ادعائك خطبتي.
مجدي :
بل لم يقبلها، إنه فقد يقدرها. وهو يقسم في صميم نفسه أن يرد لي معروفي هذا، وإن كلفه الأمر حياته.
تحية :
ولكنه يعرف أنك تعمل هذا من أجلي أنا.
مجدي :
ولكنه يعرف أنني أعاونه في أعظم أمل له، وقد قال لي إن الإنسانية ليست جديرة بهذا الاسم إن لم يكن بين أفرادها تعاون وأخوة، وهذا التعاون هو محور الحياة، فلو تعاون الناس ما خاب أحد منهم، وما ألقوا على الحظ والقدر أخطاءهم.
تحية :
نعم. هذا كلام من يحمل الجميل ويقدره وينوي رده. (يدخل إبراهيم.)
إبراهيم :
أهلا، أهلا، (يدخل معه الرجل الذي جاء بالأشياء) (للرجل)
وحياتك في شارع إبراهيم باشا بعض أشياء أخرى تركتها هناك، أرجوك أن تؤجر عربة وتحملها إلى هنا حتى نرتب المعمل معا.
الرجل :
أمرك.
إبراهيم :
خذ. هاك أجرة العربة.
الرجل :
السلام عليكم.
إبراهيم :
وعليك السلام. (يخرج الرجل ويواصل إبراهيم حديثه مع تحية.)
تحية :
إبراهيم! أتقيم هنا معملا؟!
إبراهيم :
نعم.
تحية :
هذا شيء عظيم. لكم أحب يا إبراهيم أن أساعدك.
إبراهيم :
أكثر من مساعدتك هذه؟! لا، شكرا.
مجدي :
والله يا إبراهيم كنا نحب أن نحتفل بمعملك، إلا أن هناك أمرا خطيرا.
تحية :
أبي يريد أن يكتب الكتاب حالا، يظهر أن القدر يقف في وجهنا دائما.
إبراهيم :
هذا ليس اسمه القدر، وإنما اسمه أبوك، حمدي بك العباسي، وليس حمدي بك القدر.
تحية :
المهم، ما العمل؟
إبراهيم :
نحلها إن شاء الله.
تحية :
عجيبة! أراك وكأنك تعرف أن ليس هناك عقبة تستطيع أن تقف أمامك.
إبراهيم :
عقبة وحيدة، لا يستطيع الإنسان أن يتغلب عليها.
تحية :
وهي؟
إبراهيم :
الموت.
تحية :
وكل ما عدا هذا؟
إبراهيم :
كل ما عدا هذا من صنع الإنسان، ويستطيع الإنسان أن يتغلب عليه.
تحية :
تغلب إذن على كتب الكتاب.
إبراهيم :
سأتغلب.
مجدي :
وحدك؟
إبراهيم :
وحدي أو مع غيري، المهم أن الإنسان سيتغلب.
تحية :
ألا تقول إن شاء الله؟
إبراهيم :
سبحانه كل شيء بمشيئته، ولكنه دائما سبحانه يترك الإنسان يتصرف في أموره، وإلا لما أعد له في الآخرة ثوابا وجزاء.
تحية :
وأين المشيئة إذن؟
إبراهيم :
إنه يعرف ما سأعمله في اللحظة القادمة، ولكنه لم يأمرني به، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، وهو يريد أن يتركنا أحرارا ليعد لنا الحساب، ومشيئته هي أن يتركنا أحرارا، تلك هي مشيئته.
تحية (سارحة) :
سبحانه!
إبراهيم (لمجدي) :
طبعا فاتحتك إجلال هانم في الموضوع بصفتها خالتك.
مجدي :
قالت لي: أنت والحمد لله تكونت وأظن لا مانع من ...
إبراهيم (مقاطعا) :
تكونت؟
مجدي :
أظن ذلك!
إبراهيم :
ظن خاطئ، غرور.
مجدي :
غرور؟!
إبراهيم (متجاوزا) :
اسمع. ألم تقل لي يوما إنك فكرت في دراسة الدكتوراة في الحقوق، وإنك درست فعلا القسم الأول؟
مجدي :
نعم! ولكن ...
إبراهيم :
حمدي بك غاوي علم، ولو قلت له إنك تريد أن تكمل دراسة الدكتوراة.
مجدي :
أكملها؟
إبراهيم :
وما البأس؟
مجدي :
لا بأس، ولكن.
إبراهيم :
قل له إنك عرضت الفكرة على تحية، وإنها وافقت بسرور أن تؤجل الكتاب حتى تنال الدكتوراة.
مجدي :
والله أعتقد أن حمدي بك لن يمانع.
إبراهيم :
على العكس، سيفرح بك كل الفرح.
تحية :
أنت عبقري. هيا يا مجدي.
مجدي :
إلى أين؟
تحية :
إلى أين؟! إلى أبي، هيا. (تجره وتخرج في سرعة، يجلس إبراهيم مرتاحا باسما.)
إبراهيم :
هيه أيها القدر. (يظهر القدر.)
القدر :
ماذا تريد؟
إبراهيم :
ما رأيك؟
القدر :
فيم؟
إبراهيم :
فيما أعمل.
القدر :
أنت لم تعمل بعد.
إبراهيم :
ولكنني عملت وأعمل وسأعمل.
القدر :
الحياة لا تعرف سأعمل، ولكنها تعرف عملت وأعمل.
إبراهيم :
إذن!
القدر :
اعمل.
إبراهيم :
البحث خطير، والجهد شديد.
القدر :
اعمل.
إبراهيم :
كن إلى جانبي.
القدر :
أنت وحدك إلى جانب نفسك.
إبراهيم :
وهؤلاء الذين يعاونونني؟
القدر :
هؤلاء إخوانك في الحياة يعملون بوحي أنفسهم، وسيحتاجون إليك يوما ما، وستكون لهم. اعمل.
إبراهيم :
ها أنا ذا أعمل. (يدخل الرجل إلى المعمل حاملا أشياء أخرى عديدة وينتفض إبراهيم في سرعة ليساعد الرجل ويختفي القدر وهو يقول):
القدر :
اعمل. (يبدأ إبراهيم في العمل في همة ونشاط، وينسدل الستار في بطء.) (ستار)
الفصل الرابع
(عيادة الدكتور إبراهيم أنيقة غاية الأناقة، حسن واقف في وسط العيادة ينظف أثاثها في فرح وهمة ويغني في ابتهاج شديد، يدق جرس الباب.)
حسن :
أعوذ بالله! ميعاد العيادة لم يبدأ يا عالم، أبعدوا عنا الزبائن يا عالم، هل خلا البلد من الدكاترة، الأمر لله. (يخرج حسن ويعود بعد لحظة ومعه مجدي.)
حسن :
أهلا سعادة البك المحامي.
مجدي :
أهلا بك يا حسن. أين الدكتور؟
حسن :
ميعاده بعد نصف ساعة.
مجدي :
طيب، أكلمه في التليفون.
حسن :
أمرك يا سعادة البك.
مجدي (يضرب التليفون) :
ألو. إبراهيم. أنا يا سيدي. أنا الخطيب مع وقف التنفيذ. أهلا بك. عندي أخبار مدهشة. لا. في التليفون غير ممكن. غير ممكن طبعا. تحية؟ تحية ستأتي حالا. ننتظرك؟ طبعا، بسرعة، سلام. (يضع السماعة. يدخل حسن)
حسن :
قهوة يا سعادة البك الدكتور، أحسن بن.
مجدي :
طيب يا عم حسن، لا بأس. (يضرب جرس الباب، يذهب حسن يفتحه فتدخل تحية.)
حسن :
أهلا بالهانم، أهلا وسهلا.
تحية :
أهلا بك يا حسن. والنبي فنجان قهوة.
حسن :
حالا.
تحية :
هيه، كلمت إبراهيم يا مجدي؟
مجدي :
طبعا.
تحية :
وعرف؟
مجدي :
فضلت أنتظر حتى يأتي.
تحية :
طيب، ننزل نشتري بعض الحاجات ونرجع.
مجدي :
أنت عصبية جدا، القهوة على النار، والدكتور على نار أخرى وفي غمضة عين سيكون معنا.
تحية :
والله يا مجدي أنا محتارة، كيف أشكرك؟
مجدي :
رجعنا للكلام القديم. يا سيدتي العزيزة والله أنا الكسبان.
تحية :
سنتان الآن وأنت تمثل على الناس؛ على أبي وأمي بل أنت تمثل علي وعلى نفسك.
مجدي :
هواية. أنا أحب التمثيل؟
تحية :
جائز ولكن أتعس الناس الذي يمثل على نفسه.
مجدي :
أنا أولا لم أعترف أنني أمثل. ولكن افرضي، ما البأس؟ أنا أمثل السعادة، والسعادة غالبا في أولها تمثيل ثم يتهيأ للإنسان أن التمثيل حقيقة، ثم، يصبح سعيدا حقيقة بغير تمثيل.
تحية :
أنت يا مسكين لا تمثل السعادة؛ أنت تمثل على نفسك تمثل على قلبك، تدعي أنه تخلص من حبي وهو كل يوم يصرخ بأعلى صوته أنك كاذب وأنه لا يزال على حبه القديم ولكنك بتمثيلك تخرسه حتى يخرس، وتدعي السعادة ...
مجدي (مقاطعا) :
حتى أسعد، وأي ضرر في ذلك؟! إن صراخ قلبي صحيح حقيقة هو يصرح ويصرخ كثيرا، إلا أنه في هذه الشهور الأخيرة أصيب المسكين بضجة فأصبح صوته الذي كان عاليا مرتفعا، ضعيفا خافتا، لا أسمعه إلا إذا كنت وحدي، وأسمعه حين أسمعه مستعطفا بعد أن كان آمرا، وهكذا أحسست أنني تغلبت عليه.
تحية :
يا صديقي الكبير.
مجدي :
طبعا كبير. ولا يمكن لواحد كبير مثلي أن يسمح لقلب، مجرد قلب في حجم قبضة اليد أن يتغلب علي.
تحية :
أخاف يا مجدي أن أكون سببت لك من المتاعب أكبر مما كنت تنتظر.
مجدي :
أقول الحق. إنني في أول الأمر لاقيت من هذه القبضة المسماة بالقلب متاعب كثيرة جدا، ولكن حين رأيت الدكتور إبراهيم يبني مجده ويقيم مستقبله، وحين أحسست به يشقى ليسعد بك، ويبحث ليهدي إليك اسما ضخما، وحين تخيلت ذلك البيت الذي سيضم الحب، والمجد، وحين تبينت السعادة التي ستكون ضمن محتويات هذا البيت، حين رأيت هذه جميعه وأحسست به وجدت نفسي أبني حياة، أنشئ مستقبلا، ليس فقط لك ولإبراهيم، بل لأولادكم وأولاد أولادكم، أنا هذا الإنسان الصغير أنشئ لكم الحاضر والمستقبل، أنا أقيم سعادة وحبا ومجدا وحياة داخل الحياة ... أنا؟ الحق يا تحية وجدت متاعبي قليلة جدا، ووجدت مكافأتي كبيرة جدا.
تحية (تبكي من الفرح) :
صحيح يا مجدي؟ صحيح؟ مكافأتك كبيرة ... كبيرة جدا، مكافأتك السعادة.
مجدي :
شفت. الحمد لله.
تحية :
الحمد لله. عرفت طريقك إلى السعادة.
مجدي :
ومعظم الناس لا يعرفون كيف يسعدون، ويترقبون الفرص للشقاء، حتى إذا أصبحوا أشقياء قالوا الحظ، القدر.
تحية :
ضعاف.
مجدي :
ضعاف.
حسن :
القهوة، واحد سكر على الريحة، واحد سكر زيادة. (ويضع فنجانا أمام كل من الضيفين، وفي أثناء ذلك يدخل الدكتور إبراهيم مبتهجا.)
إبراهيم (شديد الابتهاج شديد اللهفة لمعرفة الأخبار) :
أهلا ... أهلا بخطيبتي وخطيب خطيبتي.
تحية :
يا أخي تأخرت.
إبراهيم :
أسعفوني بالأخبار.
تحية :
لا وحياتك. لا بد من العمولة أولا.
إبراهيم :
أنا في عرضك.
تحية :
زبون جديد، عمولته أولا.
إبراهيم :
لا، أنا في عرض من يبعد عني الزبائن الآن.
مجدي :
حتى ولو كان الزبون هو حمدي بك؟!
إبراهيم (مندهشا) :
حمدي بك العباسي؟!
مجدي :
العباسي!
إبراهيم :
أبو تحية؟
مجدي :
سبحان الله يا أخي! لا، أبو الشوارب؟
إبراهيم :
يعني عرف؟
مجدي :
لا، عرف هذه، ستكون هنا!
إبراهيم :
يعني؟
مجدي :
يعني قمنا بواجبنا. فقم أنت بواجبك.
إبراهيم :
كيف؟
مجدي :
الدكاترة كلهم أجمعوا على أنك أنت المختص في مرض حمدي بك، وكلهم أخبروا حمدي بك بهذا.
إبراهيم :
بالذمة صحيح؟!
تحية :
كان الدكتور منهم ينتهي من الكشف، ويقف في منتهى الأدب قائلا: يا حمدي بك أنا آسف جدا، الوحيد المختص في مرضك هو الدكتور إبراهيم محسن، سعادتك تعرفه؟ إن كنت لا تعرفه أكتب له، هو شاب طيب جدا.
مجدي :
فينفجر حمدي بك صائحا: خلاص لم يبق في البلد غير سي الدكتور إبراهيم ؟ طيب، لن أراه.
تحية :
ويظهر الدكتور الغريب دهشته ويخرج، ويأتي دكتور آخر. ويتكرر نفس المشهد.
مجدي :
إلا أن المسألة زادت والآن هو مناه يشوفك ولكن مخه التركي ما زال يمنعه.
تحية :
فاقترحت أنا.
مجدي :
أنت؟
تحية :
يا أخي فوت.
مجدي :
نهايته. اقترحت، اقترحت هي يا سيدي أن نرفع لافتتك من على الباب ونأتي به ويفاجأ بك داخل العيادة، سنجعله يدفع الأجر مثل كل الزبائن.
إبراهيم (في غاية الفرح) :
عبقرية، عبقرية والله. يا حسن، يا حسن اسمي المكتوب على الباب.
حسن :
ما له؟
إبراهيم :
ينشال، ينشال حالا.
حسن :
ينشال؟!
إبراهيم :
ينشال.
حسن (ساخرا) :
وأحط اسمي؟
إبراهيم :
لا، ينشال هو ولا تنحط أنت. (حسن يخرج مندهشا.)
إبراهيم :
هل هناك أوامر أخرى؟
مجدي :
لا يا دكتور يا حلال المشاكل.
إبراهيم :
ماذا تقصد؟
مجدي :
أقصد أنك أنت الذي كنت تطلب إلى الدكاترة أن يقولوا هذا.
إبراهيم (ضاحكا) :
تحية كانت تقول لي اسم الدكتور المقترح، وبالصدفة كانوا جميعا أصدقائي، والحقيقة أيضا أنني فعلا المختص، وكلهم يعرفون هذا.
تحية :
وطبعا كنت تشرح لهم الظروف؟
إبراهيم :
كلهم يعرفون الآن أنني أهرب من الزبائن.
مجدي :
طيب. هيا يا تحية.
تحية :
نعم لنحضر لك المريض.
مجدي :
إلى اللقاء يا دكتور.
إبراهيم :
إلى اللقاء يا دكتور. (يخرجان ويخلع إبراهيم الجاكتة ويلبس المعطف الأبيض ويدق الجرس ويدخل حسن.)
إبراهيم :
الأول.
حسن :
حاضر. وأحضر لك قهوة؟
إبراهيم :
عظيم، وأسرع. (يخرج حسن وبعد قليل يدخل طهستان.)
إبراهيم (في ترحيب شديد) :
أهلا يا سيد طه. والله زمان.
طه (في أدب شديد واحترام) :
أكرمك الله يا دكتور.
إبراهيم :
شرفت يا سيد طه، أهلا أهلا. أين أنت يا رجل؟
طه :
في الدنيا يا دكتور.
إبراهيم :
وكيف حالها وإياك يا سيد طه؟
طه :
الحمد لله. هي من جهة المال ما زالت كما هي، المغفلون كثيرون والحمد لله.
إبراهيم :
هيه؟ وهل عندك عرض جديد في هذه المرة؟
طه (في استخذاء) :
أنا آسف يا دكتور، أنت انتصرت علي. اسمك يملأ الدنيا والحمد لله.
إبراهيم :
الحمد لله. آمنت به وبالقوة التي وهبها للإنسان فنجحت.
طه :
الحمد لله يا دكتور.
إبراهيم :
المهم هذه الزيارة لسبب، أم تذكرت؟
طه :
والله يا دكتور إن أردت الحق فهي لسبب.
إبراهيم :
خيرا؟
طه :
مرض.
إبراهيم :
كفى الله الشر.
طه :
ترددت كثيرا قبل أن أجيء إليك، ولكن كل الناس، قالوا لا شفاء إلا على يديك.
إبراهيم :
ولماذا ترددت؟
طه :
لا أريد أن أرى هزيمتي في انتصارك.
إبراهيم :
يا أخي وما الضرر؟ خلاف في الرأي، هذا كل ما في الأمر. وأؤكد لك أن أغلب الناس يميلون إلى رأيك أنت. (يدخل حسن.)
حسن :
يا دكتور، يا دكتور الست تحية.
إبراهيم :
جاءت؟
حسن :
نعم! هي ومعها رجل كبير.
إبراهيم :
عظيم، عظيم، (يلتفت إلى طه)
يا سيد طه، هل يمكنك أن تنتظرني نصف ساعة ...؟
طه :
ساعتين.
إبراهيم :
ألف شكر. (يخرج طه.)
إبراهيم (لحسن) :
أدخلهم وأسرع، (يخرج حسن)
أخيرا شرفت يا حمدي بك، أخيرا. (لا يبقى بالمسرح غير مجدي وتحية.)
حمدي (يرى إبراهيم فيغضب ويحاول الرجوع) :
من؟ أنت؟ مؤامرة إذن؟ مؤامرة؟
تحية :
لصحتك يا أبي، لصحتك.
حمدي :
لا أريدها يا ستي.
إبراهيم :
ما كل هذا الغضب يا عمي؟
حمدي :
سبحان الله! ألا تعرف؟
إبراهيم :
أعرف ماذا؟ أعرف أنك منعتني من الوظيفة، وخالفت رأيك والحمد لله نجحت ووصلت إلى المكانة التي أعتقد أنك تريدها لي.
حمدي (في ضعف وتردد) :
ولكني ... ولكني لم أكن أعرف أنني سأراك ... ولكن (كأنما تنبه إلى شيء)
أين مجدي؟ (ثم يقول لتحية)
مجدي خطيبك، أليس هو من جاء بي إلى هنا؟ يتآمر معك؟! لا، لا تقولي إنه كان يتآمر معك.
تحية :
ولم لا يا أبي؟
حمدي :
خطيبك يتآمر معك، ليخطبك شخص آخر! من يصدق؟
تحية :
والله لا أظن أن أحدا يصدق، ولكنها الحقيقة على كل حال.
حمدي :
أية حقيقة؟
تحية :
الحقيقة أن مجدي كان يحجزني حتى يكون إبراهيم نفسه.
حمدي :
فمجدي إذن لا يحبك؟
تحية (وقد بان التأثر على وجهها) :
الله أعلم يا أبي، الله أعلم.
حمدي :
لعب عيال، شغل صغار.
إبراهيم (ضاحكا) :
لاحظ يا عمي.
حمدي :
عمى في عينك.
إبراهيم :
أشكرك. ولكن لاحظ يا عمي أن الثورة العصبية مضرة بك.
حمدي :
يا أخي ما شأنك؟
إبراهيم :
ما شأني؟! إنه شأني أنا وحدي؛ أنا من اليوم طبيبك الخاص.
حمدي :
طبيبي! ألماذا؟! لماذا؟!
إبراهيم :
الخاص طبعا، فأنا سأكون معك ليل نهار أراقبك دائما، وأمنعك من أكل معين، وأسمح لك بأكل معين.
حمدي :
الله! الله! أتظن أنك تتزوجني أنا؟
إبراهيم :
لا، ولكني سأكون ابنك.
حمدي :
أمرك يا سيدي. تحكم يا سي إبراهيم. أمرك. يعملها الصغار وتصيب الكبار. (يقول وهو خارج)
شغل عيال لعب صغار. (يخرج.)
إبراهيم :
مع السلامة يا عمي.
تحية (متخلفة) :
تجيء الليلة على العشا.
إبراهيم (فرحا) :
طبعا.
تحية :
لا تتأخر.
إبراهيم :
الله! ابتدينا.
تحية :
لا تتأخر، سامع.
إبراهيم :
حاضر، أمرك. (تخرج تحية.)
إبراهيم :
أشكرك أيها القدر، أشكرك أيها القدر، اسمح لي أن أراك لأشكرك. (يظهر القدر.)
القدر :
ماذا تريد؟
إبراهيم :
ألم تعرف؟
القدر :
لم أفهم.
إبراهيم :
ألم تفهم أنني أريد أن أشكرك؟
القدر :
والمناسبة؟!
إبراهيم :
هذه السعادة، هذه السعادة كلها.
القدر :
فأنت سعيد؟
إبراهيم (وقد تنبه في غمرة فرحه) :
أي سعادة تقصد؟
القدر :
السعادة الدائمة.
إبراهيم :
وهل هناك سعادة دائمة؟ إنه لا سعادة بغير شقاء؛ إن لم أحس بالشقاء لا أحس بالسعادة.
القدر :
وأنت ألم تحس بالشقاء؟
إبراهيم :
بل أبدعت في الشقاء فنونا. ولكني أقصد أنني حتى بعد أن نجحت، لا بد أن يغمر نفسي في كثير من الأحيان شعور بالشقاء، ثم ما يلبث وميض بالسعادة أن يشرق، كما أحس الآن، فإذا الدنيا كلها آمال تحققت، وآمال تزحم المستقبل في طريقها إلى التحقيق، والسعادة أمل تحقق، وأمل في سبيله إلى التحقيق.
القدر :
عظيم. وماذا تريد مني؟
إبراهيم :
أريد أن أشكرك.
القدر :
وما شأني أنا؟
إبراهيم :
إنه أنت.
القدر :
بل أنت.
إبراهيم :
ألم تنقذني من هذا الخمول الذي كنت أرزح فيه؟ إنه أنت من يستحق الشكر.
القدر :
بل أنت الذي عملت وسعيت، وإنهم إخوانك من الناس عاونك بعضهم، وحاربك بعضهم، وانتصرت، وإنه الإنسان دائما ولا شأن لي بك.
إبراهيم :
فأنت على الأقل من نصحني.
القدر :
إنها نصيحة قد تسمعها من أي إنسان وما كنت لتعمل بها، ولكن (ساخرا)
رأيت القدر ينصح فخيل إليك أن مغاليق الغيب قد فتحت وعملت.
إبراهيم :
وأنت؟
القدر :
أنا من؟
إبراهيم :
أنت القدر.
القدر (منفجرا في ضحكة ساخرة وهو يتقهقر نحو المكان الذي سيخرج منه) :
أيها المسكين ... أصدقت حقا أنني القدر؟
إبراهيم (ذاهلا) :
فمن أنت؟!
القدر :
أنا أنت. أنا نفسك. تجسمت لك عند الشدة. إنه أنت أيها المسكين الجبار. إنه أنت الإنسان، الإنسان دائما. (ستار)
ناپیژندل شوی مخ