مائدة وكرسيان وجدت في الغرفة التي كان يشغلها بونابرت في أوكسون حينما كان ليوتنان المدفعية.
وقد كانت أمه استفادت فيما مضى من حمامات جوانيو الواقعة في كورسيكا على مسافة ثلاثين كيلومترا من أجاكسيو، فرافقها ابنها إليها هذه المرة، وكانت جوانيو أو كوانيو عظيمة الشهرة لذلك العهد، يؤمها الناس من كل صوب، فيجتمع فيها زهاء ثلاثمائة بين مريض يرجو الشفاء ومتعب يطلب الراحة من هموم الأعمال أو عراك السياسة، وفائدتها الكبرى هي تسكين الأوجاع العصبية، تلك الأوجاع التي منيت أمه بها، وانتقل إليه شيء منها بالوراثة كما ورث عن أبيه استعداده المرضي، وقد كان يعلم أنه مدين بما فيه من الحالة العصبية لأمه خصوصا؛ ولهذا كان يقول عن نفسه: «رأس رجل على جسم امرأة.»
ولم يغادر نابوليون كورسيكا إلا في شهر أكتوبر سنة 1787، فوصل باريس في التاسع من نوفمبر، ونزل في أوتل شربورغ بشارع سنت أونوره.
ومن راجع مفكرات نابوليون وقرأ ما كتب بعنوان «أدوار حياتي» يجد هذه العبارة: «وصلت إلى أجاكسيو سنة 1786 في سبتمبر وتركتها سنة 1787 في سبتمبر، ثم عدت إليها في يناير وتركتها في يونيو إلى أوكسون.»
أما حياته في أوكسون فلم نعرفها إلا على وجه التقريب بعد البحث في مختلف ما كتب عنه، والظاهر أنه كان يسكن فيها مع أخيه الصغير لويس في الطابق الثالث من جناح الثكنة، وكانت غرفته مظلمة يدخلها الهواء من نافذة صغيرة، وهناك وجه كل همه إلى الرسم والرياضيات وعلم الفراسة، وكان له صديق اسمه دي مازيس يختلف في الأخلاق عنه كل الاختلاف، ومع ذلك فقد تمكنت بينهما أواصر الود فكانا يأكلان معا، ولضيق ذات اليد أراد نابوليون أن يعيش باللبن وحده مدعيا المرض، ففعل صديقه مثله وشاركهما في هذا النوع من الإضراب عن الطعام رفيق ثالث.
وكان من شروط هذا الاتفاق الثلاثي أن يؤلف كل بدوره قصة نثرية يقرؤها بعد الغداء، فعاشت القراءة بقدر ما عاش الاتفاق؛ لأن معدة نابوليون قصرت عن احتمال اللبن، بل إن هذا الحرمان أثر في صحته فاعتلت واضطر إلى ملازمة الفراش، ولم يدخل إلى المستشفى حينئذ؛ لأن النظام كان لا يسمح بالدخول إليه إلا لمن كان في خطر، وفضلا عن ذلك فإنه كان يعاف الأدوية ويأنف الخضوع لنظام المستشفى.
وكان طبيبه في تلك المدة الدكتور بيانفلو، فلما صار نابوليون قنصلا أول سنة 1802 واستعرض الجيش في ساحة مارس، كان بيانفلو لا يزال في وظيفته فعرفه نابوليون حالا وصاح به: أي بيانفلو، ألا تزال غريب الأطوار؟! فأجابه هذا: «ليس بالمقدار الذي أنت فيه من الغرابة أيها القنصل، الذي لا يعمل مثل سواه ولا يجد من يقلده»، والظاهر أن الجواب لم يغضب نابوليون فسمى الطبيب عضوا في جوقة الشرف وبقي في وظيفته إلى سنة 1815.
ما هو ذلك المرض الذي أصابه في أوكسون، وكم كانت مدته؟ ربما كان الحمى الراجعة الكثيرة الانتشار في تلك البلاد، والتي كان نابوليون معرضا لها، ولا يجهلها، كما نرى من كتابه لأمه إذ يقول: «صحتي الآن أحسن فأستطيع أن أحرر لك، إن المناخ هنا سيئ لوجود المستنقعات وفيضان النهر المتواصل الذي يملأ الحفر بماء آسن، وقد تعبت كثيرا لتعدد نوبات الحمى المنهكة، وأما الآن بعد أن صحا الجو وذاب الثلج وتبدد الضباب فإني أشعر بتحسن سريع.»
ولم تمنعه آلامه من متابعة دروسه، فكان يستيقظ الساعة الرابعة ويبدأ بالعمل، ولا يأكل إلا مرة واحدة في النهار نحو الساعة الثالثة، وبعد شهر من مرضه طلب أن يستريح فلم يرفض طلبه هذه المرة أيضا، فذهب إلى أجاكسيو وقصد إلى الاستشفاء بمياه أوريزيا الحديدية، ثم عاد إلى أوكسون مصطحبا معه أخاه الصغير لويس يرشده ويدربه ويعلمه الرياضيات والتاريخ.
وفي أبريل سنة 1791 رقي إلى رتبة ليوتنان أول في فرقة كرنوبل، فذهب إلى فالانس وأقام فيها زمنا، ومنها سافر إلى كورسيكا، ثم عاد إلى باريس والثورة في غليانها.
ناپیژندل شوی مخ