وشيوع الأسلوب العلمي في أيامنا قد جعل الفلاسفة والأدباء يتشككون في قيمة ما يمارسون من فلسفة وأدب؛ ولذلك أصبحت الفلسفة «تجريبية»، وصاحب هذا الرأي أو هذه الدعوة إلى اتخاذ الأسلوب العلمي في الفلسفة هو جون ديوي الذي مات قبل سنتين، والذي يعد من أكبر الفلاسفة الأمريكيين، كما أنه مؤسس المدارس «الارتقائية» الجديدة التي دعا فيها إلى أن تكون المدرسة مجتمعا صغيرا يمثل المجتمع الذي سيعيش فيه التلميذ أو الطالب بعد ذلك، وفلسفته عن التعليم تندغم في فلسفته عن الحياة، وأنا أحاول هنا أن أشرح فلسفته التي تأثرت بها، والتي ما زلت أسترشد بها وأعتمد على أسلوبها في حياتي الذهنية.
وأبدأ بما أستطيع أن أسميه «مفتاح» التفكير الفلسفي «ديوي»، وهو أنه ليس في هذا الكون شيء كائن - أي ثابت لا يتغير - لأن كل ما فيه من ناس أو حيوان أو نبات أو جماد هو أشياء «صائرة»؛ أي إنها في تغير لا ينقطع، أو بكلمة أخرى هي في تطور.
نحن وكل شيء حولنا في صيرورة تغير، ولسنا في كينونة ثابتة، واعتقادي أن الذي غرس هذه الفكرة في الأذهان العصرية هو داروين حين أثبت أن التطور هو الأصل، والمبدأ في عالمنا، وما دام التغير أو التطور هو الأساس لوجودنا فيجب لذلك أن نقول بالتجربة؛ أي التجربة في الفلسفة والتجربة في الاجتماع، والتجربة في التربية، ذلك أن مجتمعنا ليس نهائيا؛ إذ هو سيتطور، وما دام هذا شأنه يجب أن نتناول بالتغير كلما وجدنا الحاجة إلى هذا التغيير.
هذا هو المفتاح الأول، أما المفتاح الثاني الذي يفتح لنا أبواب الفلسفة عند ديوي فهو أن الفصل بين الماديات والمعنويات الذي قال به أفلاطون ليس حقيقة، وإنما هو وهم؛ فالمادة والروح، والجسم والعقل، والفكرة والمادة، كلها شيء واحد، وهو يجبهنا بالقول بأننا لم نعرف قط عقلا بلا جسم، ولا فكرة بلا مادة.
أما المفتاح الثالث فهو التسليم بأن معارفنا عن الكون والأشياء موقتة؛ أي لوقتنا أو لعمرنا هذا فقط، وهي ليست نهائية، ولا نستطيع لذلك أن نقول إنها صادقة؛ لأن هذه الأشياء في تطور، وقصارى ما نستطيع أن نقوله عن المعارف البشرية أنها «آلة» و«وسيلة» نفهم بها الأشياء. وغاية هذا الفهم غير النهائي إنما هي التسلط على الطبيعة واستغلالها لمصلحة البشر، لو كانت الأشياء ثابتة، ولو كان الكون ثابتا، ولو كانت عقولنا ثابتة، لكان فهمنا لهذه الأشياء ثابتا نهائيا، ولكننا نحن جميعا في صيرورة، نصير ونتغير؛ ولذلك فإن هذا الفهم أيضا سيتغير، ولا يمكن أن يكون نهائيا، وما عندنا من فهم عن الكون والأشياء إنما هو صورة وقتية ننتفع بها، ويجب أن ننتفع بها في استخدام قوى الطبيعة لمصلحة الإنسان لا، ليست الغاية من الفلسفة أن نعرف أسرار الطبيعة، وإنما هي أن نستخدم قوى الطبيعة.
أما المفتاح الرابع فهو أن الذكاء البشري اجتماعي، فما عندنا من أفكار وآراء وعقائد، وعواطف وفلسفات إنما مرجعها جميعها إلى المجتمع الذي نعيش فيه، وكان يمكن ديوي هنا أن يقول إن اللغة اجتماعية، وإنها الوسيلة للذكاء؛ إذ لا يستطاع التفكير بلا لغة.
هذه هي الأسس لفلسفة ديوي التي يسميها «الآلية»؛ أي إن الفلسفة يجب أن تكون آلة أو وسيلة للفهم وللتسلط بهذا الفهم على الطبيعة.
وربما يكون من الحسن أن ألخص هذه الأسس الأربعة فيما يلي: (1)
أننا وكل شيء حولنا في صيرورة ولسنا ثابتين على حال لا تتغير. (2)
كل ما في هذا الكون هو وحدة لا تنقسم، فليس هناك فرق بين الماديات والمعنويات، ولا بين الحياة والمادة ولا بين الجسم والعقل، بل ليس هناك عقل مستقل أو نفس مستقلة. (3)
ناپیژندل شوی مخ