وقد كانت رحلتي في السيكلوجية وانية متعثرة، بدأت بفرويد ثم يونج ثم أدلر، ثم أولئك الأمريكيين التجريبيين، ثم كرتشمر ثم بافلوف، ولكن فرويد هو الذي فتح لي الكوة، وبسط لي الميدان، وأكسبني الحافز.
وفرويد هو بعد ذلك المفكر الأساسي بين السيكلوجيين، فإنه حط على الحقيقة الأولى، وهي الكظم العام للشهوة الجنسية، وما يؤدي إليه من اضطرابات شخصية. وهو حين يجعل هذه الشهوة حافزا أوليا للنشاط البشري لا يعدو الحقيقة في عالم الحيوان كله. ثم هو حين يعلق مستقبلنا الأخلاقي والمزاجي والعاطفي على السنين الأولى من الطفولة إنما يوضح حقيقة بل أكبر الحقائق في مبادئ التربية، وقيمة العائلة الحاسمة في التوجيه الاجتماعي الصحيح.
وأخيرا هو الذي جعلنا نعرف أننا نسير في هذا العالم بقوة العواطف المستترة في الكامنة أكثر مما نسير بقوة الوجدان اليقظ الذي ندري به ما نفعل، فنحن نحب ونكره، ونخاف ونشجع، ونشمئز ونقبل، بعواطف اندست في كامنتنا منذ الطفولة ونكاد لا ندري بها إلا بعد التحليل الشاق.
فقد يحب أحدنا فتاة ويتزوجها على اعتقاد أنه يحبها؛ لأنها جميلة أو وديعة، أو أن عينيها ساحرتان أو غير ذلك، وهو إنما أحبها لسبب طفلي هو أنها تشبه أمه أيام كانت تحمله على صدرها للرضاع، أو هو قد يكون مدللا نشأ على إحساس الحاجة إلى الأم، وقد وجد في هذه الفتاة رعاية الأم؛ لأنها أكبر سنا منه، فهو يستجملها لهذا السبب، أو هو وجد فيها كبرياء وتسلطا وهو «مازوكي» يحب أن يتألم فهو يحبها؛ لأنه يحس في جانبها أنه ذليل (وأيضا محمي)، أو قد يكون عكس ذلك؛ أي إنه سادي يحب إيقاع الأذى والقسوة بغيره، فهو يختارها صامتة منكسرة أو ضئيلة الجسم؛ لأن انكسارها وضآلتها يشبعانه ويزيدان إحساسه بالقوة، أو قد يكون شاذا، فهو يحبها لأنها تشبه الصبيان والشبان.
وقد يكره أحدنا بعض الأطعمة، بل لعله يشمئز من رؤيتها بحيث يكاد يعتقد أن هذا الاشمئزاز «طبيعي»، وهو إنما يردد في نفسه ظرفا معينا سابقا أو أسلوبا للعيش قد تعلمه في طفولته. وقد نجد شخصا له «إرادة حديدية» لا يتراجع ولا ينحرف عن هدفه مهما اعترضه من صعوبات، وكأنه معجزة عجيبة في التزامه هذا الهدف وفي توفيقه بتحقيقه، وحقيقة أمره أنه لظروف سابقة معينة قد تخيل هذا الهدف، وتجسم هذا الخيال الذي ربما يكون قد نشأ أيام الطفولة، ثم صار هذا الخيال يوجهه من حيث لا يدري، إلى هذا الهدف، ولبعض المجانين مثل هذه الإرادة الحديدية.
والإيحاءات المختلفة من أبوينا، ومن المجتمع، ومما نقرأ، ومما نصادف في شبابنا، توجهنا وتعين لنا الحسن والقبيح، بحيث نعتقد أننا نحن الذين نعين هذا الحسن وهذا القبيح، بل قد نتأثر بوحي أحلامنا ونحن نيام، ونسلك في الصباح وفق الرجوع التي أحدثها الحلم، ثم نبرر سلوكنا أو نسوغه بالمنطق.
وكل هذا يدل على أن ما نحسبه منطقا في سلوكنا إنما هو رجوع واستجابات لا شأن للمنطق فيها. ثم هو - أي «فرويد» - حين يوضح أن كلا منا - أي «الذات البشرية» - مؤلفة من ثلاثة أقاليم: أقنوم الإيد (id)
وهو طبيعتنا الحيوانية وغرائزنا البدائية الكامنة، ثم أقنوم الإيجو، وهو شخصيتنا الوجدانية الاجتماعية التي ندرى بها، ثم أقنوم السوبر إيجو، وهو ضميرنا وما نتطلع إليه من شرف وبر وفضيلة، في كل ذلك لا نستطيع أن نخالف فرويد.
وكذلك عندما يوضح لنا أن ضميرنا إنما يرجع في الأصل إلى مجموعة المحظورات التي تعلمناها منذ الطفولة، نضطر إلى التسليم بقوله. بل كذلك أيضا لا نستطيع أن نخالفه حين يقرر أننا في الطفولة نحس دوافع لذية مبهمة تتفاوت بين القوة والضعف، من الغرام الصريح إلى الحب الأفلاطوني.
كل هذا قد سلمت به وانتفعت به في مركباتي الذهنية، ولكني اضطررت إلى مخالفته في أساس نظريته وهو مركب أوديب هذا؛ ذلك أن فرويد يعتقد أن الطفل يحب أمه حبا جنسيا ويجد لذة جنسية في الرضاع والتمسح بجسمها، وهو يضطر إلى كظم هذا الحب خوفا أو حياء من أبيه، وأن هذا الكظم يدور في دورات مختلفة بعد ذلك في نفسه وهو يفرج عنه بنشاط بدلي كالتسامي، إلى إيجاد مؤسسات الحضارة أو إلى ألوان أخرى من الثقافة أو قد يمرض منه. ولم أستطع أن أقنع نفسي بكل هذا، ولكني مع ذلك أسلم بالعواطف المركبة في الطفل نحو الأب وهي حب وكراهة واحترام وعداء، وهي تعزى في بعضها إلى مركب أوديب، فإن الطفل يغار على أمه من أبيه غيرة أظنها غير جنسية، أو هي إذا كانت جنسية فإن الإحساس الجنسي فيها ضعيف حتى لا يكاد يؤبه به؛ أي إن مركب أوديب ليس ميزان النفس البشرية، وليس أساس المركبات النفسية في الشباب.
ناپیژندل شوی مخ