كان تولستوي مثاليا ولم يكن ماديا. •••
نجد في حياة تولستوي ظروفا أو حوادث رسمت له خطوط حياته، فإن حرب القرم بفظائعها جعلته كاتبا يكتب عن قهر وإلزام؛ لأنه لا يطيق الصمت، وهذه الحال أعظم ما يهيئ التفوق والنبوغ في الكاتب. ثم رأى هول النظام الإقطاعي في روسيا، والرق الزراعي الذي كان يقضي بخضوع الفلاحين لصاحب الأرض، لا يتركونها إلى غيرها؛ إذ هم عبيد تملكهم الأرض ولا يملكونها. وقد ألغي الرق في عام 1861، ولكن تولستوي حرر عبيده تطوعا قبل أن يسن هذا القانون.
ورأى تولستوي في حياته الأدبية صراعا بين المستغربين والمستشرقين، فإن دعاة الإصلاح انقسموا فريقين: أحدهما يقول بالتزام روسيا لمبادئها الشرقية، والآخر يقول بأخذها بالأساليب الغربية، وهذا التردد أوقع بالشعب في بلبلة كسب منها الرجعيون؛ أي القيصريون والكنسيون، أليست القيصرية والكنيسة مؤسستين شرقيتين وطنيتين يجب المحافظة عليهما؟ ولذلك كان القول بتحرير العبيد من الرق الزراعي، وتعليم المرأة في الجامعات، والتفكير الاجتماعي في معاني الدين، بل البرلمان نفسه، كل هذا كان من بدع المستغربين الذين يعدون خونة للمبادئ الشرقية الروسية. وكان في الجانب الآخر دعاة الحضارة الغربية العصرية الذين أخذوا بالمذهب الماركسي في الاشتراكية، والذين كانوا يطالبون بإلغاء القيصرية واحتضان الثقافة العلمية الأوروبية.
وانتقلت هذه المعركة إلى الأدب الروسي واحتلت مركز المناقشة فيه، ففي ناحية نجد دستوفسكي ينعي على أوروبا ماديتها ويدعو روسيا لاستيفاء شرقيتها، ومن ناحية نجد تورجنيف يدعو إلى الغرب.
ومن هنا نشأت كلمة «العدمية: النيهلزم» التي سكها تورجنيف؛ كي يبين البلبلة أو اليأس الذي يقع فيه شبان روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حين كان يحملهم قنوطهم على طلب العدم؛ لأن الوجود لا يطاق، الوجود لا يطاق إزاء ناس أشرار يطلبون بقاء القيصرية والكنيسة المستبدين، وبقاء الرق الزراعي، وبقاء المرأة للبيت، وبقاء الاستسلام والخضوع والرضا بالفقر. •••
لكل كاتب أب روحي ينتمي إليه، أو هو يعتقد أنه ينتمي إليه، وفي هذا الانتماء أنسة تتولد منها شجاعة وإصرار، وإحساس بالسلامة بالبعد عن الأخطار. ولا عبرة بأن يكون الأديب المنتمي مخطئا، وإنما العبرة بالإيمان. وكان الأب الروحي لتولستوي جان جاك روسو، كما كان الأب الروحي بعد ذلك لغاندي، تولستوي نفسه.
وقد صرح تولستوي بأن في شبابه كان يعبد روسو، وأنه كان يحمل ميدالية عليها صورة هذا الأديب الفرنسي العظيم، ولقد قال في أحد مؤلفاته: «إني أحس، وأنا أقرأ لبعض الصفحات من روسو، كأني أنا قد كتبتها.»
ونحن نجد بين الاثنين قاسما مشتركا، فإن كلا منهما وجد في الرجوع إلى بساطة الحياة حلا للعقد الاجتماعية التي أوجدتها الحضارة العصرية، والتي جعلت حياتنا شاقة بالطموح المسرف، والمباراة القاتلة، واتخاذ القصد المخطئ في الجهد لجمع المال، والعيش في البذخ. لقد دعا روسو إلى العودة إلى الطبيعة وإلى المعيشة الساذجة، وقد عاش روسو في هذه الطبيعة الساذجة حين آثر الريف على المدينة، والالتصاق بالأرض والإنتاج الزراعي على مركبات الحضارة العصرية التي كثيرا ما تستحيل إلى عقد، ونحن نجد في اعترافات روسو، ثم اعترافات تولستوي، أمكنة عديدة للمشابهة، ولكن يجب أن نسأل قبل أن نلتفت إلى هذه الاعترافات: لماذا كتبها روسو وتولستوي؟ بل لماذا كتب غاندي، تلميذ تولستوي، اعترافاته أيضا التي سماها «تجارب في الحياة»؟
السبب هو القلق، فإن هؤلاء الثلاثة الذين هدفوا إلى الطمأنينة والسلام والسعادة في كتابتهم، كانوا قلقين لهذا السبب نفسه؛ أي إن جهدهم لتحقيق الطمأنينة والسلام والسعادة قد أحالهم إلى مفكرين مكافحين مخاصمين للمجتمع الذي عاشوا فيه، وقد تألموا جميعهم، فإن روسو طورد كما لو كان مجرما، بل إنه عاش بعض سني حياته وهو مختبئ أو هارب، وتولستوي طورد من الكنيسة التي كان يرفع دينها إلى أعلى مرتبة، وأما غاندي فقد ضرب وحبس، ثم أخيرا قتل.
ولسان هؤلاء الثلاثة جميعا يقول، كما كان يقول أرميا: «ربي، لم جعلتني مشاقا لأهلي؟» أي ربي، لم جعلتني على شقاق مع مجتمعي؟
ناپیژندل شوی مخ