ونورا بعد أن ينكشف لها حالها هذه تترك بيت الزوجية، تترك الزوج والأطفال، بعد أن تشرح لزوجها أنها طفلة، وأنها لن تقبل أن تعيش سائر حياتها في هذه الطفولة، وأنها ستخرج إلى الدنيا كي تعامل وتختبر، حتى تنجز لنفسها وعد حياتها، وحتى تؤدي حق إنسانيتها، بأن تبني شخصيتها بالمعرفة والاختبار والدرس مهما ارتكبت من أخطاء أو وقعت في أخطار؛ ذلك لأن رسالة الإنسان في هذه الدنيا أن يعرف الدنيا ولا يحاط بسياج من الواجبات الاجتماعية يحول دون فهمه أو بنائه لشخصيته.
وقد أحدثت هذه الدرامة ضجة كبرى في العالم الأوروبي؛ لأنها صدمت العقائد والتقاليد، ولكن الضجة هدأت أو انفثأت عن انتصار المرأة والتسليم بأن جمالها القديم، جمال الوجه والصدر والقامة والفخذين، هو جمال الأنثى، وأما جمال المرأة الجديدة فيجب أن يعلو على ذلك. أي يجب أن ينطوي على العقل النير والشخصية الراقية التي تدربت بالتجارب والاختبارات، وارتقت بالثقافة واشتركت في شئون المجتمع، وقد كان إبسن رؤياي المنيرة حين كنت حوالي العشرين، أتلمس المثليات الأوروبية والقيم العصرية، وأبني شخصيتي الذهنية، وكان مركز المرأة المصرية يحز في صدري كأنه خزي أبدي لولا هذه المحاولات الصغيرة العظيمة في مثل كتابي قاسم أمين، ثم بعد نصف قرن في نشاط هدى شعراوي وسيزا نبراوي ودرية شفيق وأمينة السعيد وأمثالهن.
ونحن الشرقيين قد ورثنا تراثا سيئا من القرون المظلمة، هو تراث الرق والخصيان والحجاب، وأولئك الذين يدافعون عن الحجاب ينسون خصاء الزنوج كي يتممه. أي يتمم الحجاب، ولعلهم يخجلون حين يذكرون ذلك.
لقد تعلمت من إبسن شرفا جديدا لم أكن أعرفه حين تركت بلادي إلى أوروبا في عام 1907، هو شرف الإنسانية التي يجب ألا يحدها حجاب المرأة، هو شرف الزواج الذي يقوم على الإخاء والمساواة، ليس فيه سيد وعبد، وهو شرف الأمة التي ترفع نساءها إلى مقام الوزيرات والنائبات وتفتح لهن المدارس والجامعات.
قبل خمسين سنة كنا نقعد إلى المرأة فنجد الجهل مع السذاجة، جهل وسذاجة يبعثان الاشمئزاز الذهني في الرجل الناضج، ولا تزال هذه الحال باقية في معظم أوساطنا، ولكن الدنيا تتغير، وهي تتغير لمصلحة المرأة ورفعتها وترقيتها، ولن ترتقي المرأة المصرية وتبلغ النضج أو الإيناع إلا عندما تختلط بمجتمعنا نحن الرجال، وتمارس أعمالنا وتغب من اختباراتنا وتشترك في الصناعة والتجارة والسياسة وتواجه الأخطاء والأخطار.
وليست عبرة «لعبة البيت» مقصورة على المرأة، فإنها تمس الرجال إلا القليل من الناضجين، ذلك أن الرجل العادي في كثير من تصرفاته يعيش بلا استقلال، وليس له من الشخصية سوى الاسم، يخضع للتقاليد وينساق في تيار العرف، وصحيح أن الدنيا تربيه وتصلب عوده وتخصب شخصيته بالاختبارات والاصطدامات التي تحرم منها المرأة، فهو يخطئ ويصيب ويتعلم ويقف على كثير من الأكاذيب الاجتماعية التي تفتح ذهنه وتنير رؤياه، وكل هذا لا تصيب المرأة منه شيئا؛ لأنها محبوسة بسياج أو حجاب من التقاليد.
ودعوة إبسن هنا: لتكن لكل منا شخصية، ولينظر كل منا إلى الدنيا كما لو كان هو محورها، ليس لأحد ولا لعقيدة سلطان عليه إلا ما يرى بعد التفكير الاستقلالي أنه نافع له ولمجتمعه. إننا نطلب الحرية من القوانين والدساتير، ولكن كل ما تستطيع هذه أن تهبنا من حقوق هو على الدوام دون ما نهب أنفسنا؛ لأن قيود التقاليد واصطلاحات العرف الاجتماعي تقيدنا أكثر مما تقيدنا به مظالم المستبدين التي تحاول الدساتير والقوانين محوها أو مكافحتها.
وحتى حين يستبد بنا حاكم ظالم ويستعين بالقوة المادية على تقييد حريتنا نستطيع الاحتفاظ بكرامتنا والإحساس باستقلالنا؛ لأننا نقاوم ونكافح استبداده وجبروته ونحن على وجدان بأننا أرقى منه، ولكن استبداد التقاليد ينغرس في نفوسنا، ويعين مزاجنا، ويعودنا عادات ذهنية ونفسية تجعل كلا منا أسيرا، أجل وأسير نفسه مع ذلك، فالمرأة التي نشأت على الحجاب لا تحس هوانه كما لا تعرف جهلها؛ وهي لذلك لا تقاوم ولا تكافح. وكذلك شأن الرجل الذي يعيش في أسر التقاليد وكأنها من طبيعة الأشياء التي لا تتغير، بل لا تحتاج إلى التغيير، والفرق بينه وبين المرأة هو فرق الدرجة فقط؛ إذ هو في حجاب نفسي وذهني، وهذه الدنيا هي ملك الإنسان وعلينا جميعا رجالا ونساء أن نتعلم وننضج ولا نكون لعبة الأقدار أو لعبة المجتمع، وعلينا أن نستقل وندرس ونخبر الحقائق، وليس هذا واجب «نورا» وحدها، ولا واجب النساء وحدهن، وإنما هو واجب الرجال أيضا. ونعم هذا الدرس الذي علمنا إياه إبسن، درس حق كل إنسان في تقريره مصيره وتربية شخصيته. •••
كنت قبل سنوات أصطاف بالإسكندرية، وكنا نقعد رجالا ونساء في اجتماعات عائلية على الشاطئ نتجاذب الحديث، وما كان أسخف ما كانت تتحدث عنه النساء؛ شئون الخدم، وزواج هذه الآنسة أو تلك الأرملة، وهذا الخطيب الثري المنتظر لهذه الفتاة، وخاتم الخطبة، ومبلغ المهر لتلك الفتاة الأخرى، والسكنى في الزمالك والأتومبيل الجديد عند فلان «بك» وهذه الخياطة البارعة، وذلك القماش الجديد ... إلخ، أحاديث تافهة من شخصيات تافهة، واهتمامات زائفة نشأت من حبسة البيت وحبسة النفس، فلم يكن بين هؤلاء النسوة من كانت تهتم ببحث العبرة والدلالة للطاقة الذرية، أو لهيئة الأمم المتحدة، أو لفلسفة برتراند رسل أو للمخترعات الطبية أو لمستقبل المرأة في الهند ومصر، أو لمعنى الدين أو برامج المدارس. وكأنهن لم يكن يقرأن الجرائد فضلا عن الكتب.
ولكن كان في هذا الوسط فتاتان لم تتزوجا وإنما احترفتا التمريض في أحد المستشفيات بالقاهرة، وكنت عندما أقعد إليهما وأتحدث أحس أني إزاء شخصيتين عالميتين، فقد اكتسبت كل منهما نظرة عالمية أخرى غير المنزل والخدم والطبخ وأحمر الشفاة والفستان الجديد، وقد استمعت إلى حديث إحداهما عن المرضى والأمراض، واختلاف الناس في استقبال الموت، أو الحكم بالموت، عندما يعرف المريض أن سرطانا قديما قد نبت وتفرع في جوفه. ووصفت لي إحداهما كيف رأت رجلا قبيل النزع وكيف خففت عنه.
ناپیژندل شوی مخ