فتقلدوا شهب النجوم عقودا
فصاح الشيخ من الطرب، وصفق بيديه في مرح خرج به عن وقاره، فلما عاد إلى نفسه قال: اعذرني يا بني فشيئان يقهرانني ولا أملك نفسي عندهما: الصوت الحسن، والشعر المطبوع الرقيق.
وسمعت أن محمد بن عبد الله قاضي الجماعة في عهد الناصر خرج يوما لحضور جنازة، وكان لرجل من إخوانه منزل بالقرب من مقبرة قريش فعزم عليه في الميل إليه فنزل، وأحضر له طعاما، ودعا جارية له فغنت:
طابت بطيب لثاتك الأقداح
وزها بحمرة وجهك التفاح
وإذا الربيع تنسمت أرواحه
نمت بعرف نسيمك الأرواح
وإذا الحنادس ألبست ظلماءها
فضياء وجهك في الدجى مصباح
فطرب القاضي، وكتب الأبيات على يده، ثم خرج للصلاة على الميت فرأى الناس الأبيات على ظهر يده، وهو يكبر على الجنازة. وقد كان هذا القاضي من أزهد الناس وأعدلهم حكما. والحقيقة يا فتاتي أن الإنسان إذا خشي ربه في السر والعلانية، واجتنب كبائر الإثم والعدوان، فله أن ينعم بكل ما خلق الله من متاع حلال. ثم حدقت في وجه ولادة كأنها تريد أن تستكشف ما وراءه من أسرار وقالت في دعابة: ومن الفائز الأول الآن في خطبة سيدة الحسن والجمال؟ - أي فوز وأي حسن وجمال يا نائلة؟ فتكلفت نائلة العبوس وقالت: أنت لا تكتمين عني شيئا يا بنيتي، وما فائدة الكتمان وقد أصبح الأمر حديث الناس، ومدار سمرهم؟ حتى كاد كل غصن من حدائق قرطبة ينادي صاحبه هامسا: ولادة وابن عبدوس، ولادة وابن عبدوس! - إن ابن عبدوس يزور ندوتي كل ليلة، وهو فتى أديب شاعر عذب الحديث حلو النادرة. - آه من عذوبة الحديث وحلاوة النادرة؛ إنهما يا فتاتي أول ما ينصبه الرجل لنا من حبائل. سليني يا ولادة عن شئون الحياة قبل أن تفقديني. إنني سجلها الجامع الذي يجد فيه كل جائر ما يهديه ويسدد خطاه. ابن عبدوس رجل عظيم متألق، ابن عبدوس شاعر مجيد وكاتب فذ. ابن عبدوس وزير له جاه ومكانة، غير أنه ذئب لا يؤمن جانبه، ولا ترجى عواقبه، وكفاه وصمة اسمه الأسباني الذي يدل على سوء أصله، والذي يجب أن يقصيه عن أن يأمل في الاتصال ببنات الخلفاء، هذا أسقطه من حسابي، وأحسب أنك تسقطينه من حسابك أيضا، وبين شباب قرطبة من ذوي الحسب والمجد من يهبون حياتهم ليشرفوا بالتزوج بك، ولكن الذي آخذه عليك يا بنيتي أنك طير لا يستقر على غصن، ولا يطمئن إلى ركن. أنت شديدة الطموح يا فتاتي، وكلما ظفرت بشيء هان عندك، لأنك ظفرت به، فطلبت غيره مما يصعب مناله، أنت تائهة في بحر الحياة المائج، والسفن تمر بك، فإذا تشبثت بسفينة ظهرت لك في الأفق أخرى، فغادرت الأولى وألقيت بنفسك إلى الثانية. إن مجلسك يحوي أكرم فتيان قرطبة أرومة، وأشرفهم منبتا، وأنت تلهين هذا بابتسامة، وهذا بهزة رأس، وهذا بكلمة طيبة، وذاك بوعد كاذب، لا لأنك لا تحبينهم جميعا، بل لأنك ترغبين في مهلة حتى يهتدي قلبك الحائر، أو عقلك المملوء بالمطامح إلى من يحسن اختياره، ومن تتحقق به الغاية التي ترمين إليها. أنت يا سيدتي كالبخيل الذي حبس ماله فلا يبيع ولا يشتري مخافة أن يغبن في درهم أو درهمين. أسرعي الاختيار يا فتاتي، فإن للشباب أوانا، وإن الورد إذا ذبل لم يبق منه غير أشواكه! أسرعي الاختيار يا ولادة، وابتعدي عن كل ما يمت إلى أصل قوطي أو بربري، فإني لا أحب البربر. إنهم يدلون علينا بطارق بن زياد، وأنا لا أحب طارقهم هذا. وأين هو من موسى بن نصير أو من ابنه عبد العزيز الذي قتله البربر؟ - دعينا بالله يا نائلة من ذكر البربر ومن ذكر الزواج، وخذي في الحديث عن المدينة وما فيها من أخبار وأسرار. - المدينة هادئة، ولكني أظنه هدوءا لا يدوم، إنه يا سيدتي هدوء الطفل الغضبان، الذي طلب لعبة فلم يظفر بها، فطفق يبربر ويهمهم، حتى مل البربرة والهمهمة فسكت على دخل، وتربص لفرصة الوثوب. إن القرطبيين يا ولادة لا يرضون بغير الخلفاء بديلا. إنهم يحبون الخلافة، ويعشقون مظاهرها، ويحنون إلى مراسمها. هاتي لهم خليفة من فخار ثم انظري كيف يجلونه ويبجلونه؛ إنهم رضوا حينا بحكم المنصور عن ابن أبي عامر الحاجب، لأنه بهرهم بتوالي فتوحه وانتصاره، ولولا ذلك ما صبروا عليه يوما أو بعض يوم. وهذا الحكم الذي ابتدعه لنا ابن جهور - ثقي يا فتاتي أني أحب الرجل وأكبر فيه الإخلاص والنزاهة - هذا الحكم الذي يشترك فيه جماعة لسياسة الدولة وحياطتها لا أستطيع استساغته. - إنهم يقولون إن ابن جهور نقله عن قدماء الإغريق والرومان. - لا إغريق ولا رومان يا ولادة. وإنما الرجل رأى رءوس من استبدوا بالحكم قبله تتدحرج من عروشهم، فاحتاط لحياته، واختبأ وراء جماعة ليحكم من غير أن يكون له اسم حاكم أو تبعته. - إنك تعرفين كل شيء يا نائلة! - إنني أعرف سر كل رجل وسر كل امرأة في هذه المدينة، ولولا ذلك ما لقيت منهم كل هذا التبجيل. إن الإنسان يخضعه الخوف، ولا يخضعه بذل المعروف.
ناپیژندل شوی مخ