5
وكانت عائشة في هذا الحين تسير وبلال خلفها نحو خطة الشام، بين خوف وتوجس ويأس وأمل، حتى بلغت دار حمدانة مالت نحوه وقالت: قف خلف هذا الجدار يا بلال، وسأدخل الدار فأمكث بها قليلا أو كثيرا، فإذا سمعتني أهتف باسمك فادع رجال الشرطة، وناد بأعلى صوتك بأن ابن زيدون مختف بهذه الدار.
ثم طرقت الباب ففتحت لها العجوز مرتاعة، ووثبت عائشة إلى فناء الدار وقالت: أريد لقاء السيد الذي يقيم عندكم.
وتنبهت حمدانة من نومها فذهبت لتستجلي الخبر، واستيقظ ابن زيدون على أصوات مختلطة فيها غضب، وفيها استنكار وفيها سخرية، ففتح باب حجرته قليلا، ولمحته عائشة فصاحت به. - قضي الأمر يا أبا الوليد، وبلغ الكتاب أجله، وأخذت الطرق على الفريسة، ووقع البلبل الغريد في الفخ، وليس لك إلا أن تلقي السلاح عاجزا مستنيبا. ثم وثبت نحو حجرته فدخلتها وأغلقت الباب، وقالت في هدوء كأن الموقف وما حوله من أحداث وخطوب لم يترك في أعصابها أثرا: اجلس يا أبا الوليد، فإننا قد نتحدث طويلا، وقد تحتاج إلى كل ما منحك الله من عقل وحكمة وصدق أناة، لتخرج من هذا الأمر الجلل كريما سليما دون أن يصيبك من أوضاره رشاش، أو يمسك خطر. أنصت إلي أبا الوليد، فقد كنت منذ أزمان تحن إلى حديثي، وترتاح إلى أنغام صوتي، كنت في ذلك الحين شابا مكتمل الرجولة، وافر العقل، سديد الرأي، لم تلعب بفؤادك الحسان، ولم يخدعك الطلاء الكاذب، والجمال المصنوع، والكلام المتكسر الممضوغ، ولم تقتنصك الحبائل المدفونة في التراب، ولم تلعب بك الآمال المضللة التي أسخطتك على حياتك الهادئة الناعمة، لتدفعك إلى حياة موهومة فيها مناصب، وفيها جاه وصولة، وفيها عز وسلطان، والتي لم تفتأ أن أردتك في الهاوية، وأوردتك ظلمات السجون.
كنت تحبني يا أبا الوليد، وتريد أن تكون لي بعلا، وكنت ولا أزال بك مفتونة، وبحبك ضنينة، وعليك غيورا، وكنا نعيش في دوحة هذا الحب طائرين غردين، تنبسط أمامهما الحياة بحدائقها الغلب، ومروجها الخضر، وأزهارها الباسمات، وأنهارها الجاريات، لتصور ما في نفسيهما من قناعة ورضا ولذة نعيم، ولكن بومة شريرة تزيت بزي الطاووس، وتصنعت صوت العندليب، حامت حول عشنا يوما، فأفسدت كل شيء، وجرتك بخيط كاذب من الأمل، ولون خداع من الجمال إلى تدمير سعادتك وهلاك نفسك.
أنصت إلي يا أبا الوليد، إني لن أسلوك إذا سلوتني، ولن أهجرك إذا هجرتني، وسأعمل وأعمل حتى نصبح زوجين سعيدين، فلا تظن أنك تستطيع الخلاص من يدي. إنك لي، وإنني لك وليس في الأرض من قوة تحول بيني وبينك. وإذا حاول الموت أن يفرقنا فسأموت معك، وسأرى في الموت هناء وراحة.
أنصت إلي يا أبا الوليد وكن عاقلا، لقد جربت الناس والأيام، فهل رأيت أوفى مني عهدا، أو أصدق حبا؟ نعم إني كدت لك عند ابن جهور، وطوحت بك في غيابة السجن، ولكني أقسم إني فعلت ما فعلت وأنت أعز الناس علي، وأحبهم إلى نفسي. إن الحب مجنون يا أبا الوليد، وإذا اشتد لم يعرف ماذا يأتي وماذا يدع، والغيرة نار مشتعلة الأوار تلتهم كل شيء ألم تسمع بذلك الشاعر المشرقي الذي قتل حبيبته لولهه بها وشدة غيرته عليها من أن تنالها عين ناظر، أو يصل إلى أذنها حديث عاشق.
كنت أحبك يا أبا الوليد حبا عاصفا، وكنت أغار عليك في الصباح من الضياء، وفي المساء من الظلام، فاعذرني يا أبا الوليد واغفر لي.
كان الغيظ يحتدم في صدر ابن زيدون، والخوف من العودة إلى السجن يزيده ارتباكا، وكانت لتلك المفاجأة صرعة بددت نفسه وأطارت صوابه فقال في صوت أجش حزين: أما الغفران فقد غفرت لك، ولن أحمل لك في نفسي ضغنا أو حفيظة، وإذا كان لنا صلة وداد في الماضي فإني سأحرص على ذكراها، ولكن الأحوال تتبدل والقلب يتقلب
لا يلبث القرناء أن يتفرقوا
ناپیژندل شوی مخ