اللوح المحفوظ كتابة هذا النظم المخصوص ونقشه فقرأه جبريل عليه السلام وحفظه وخلق الله تعالى فيه علما ضروريا بأنه هو نفس العبارة المؤدية للمعنى القديم على أن إنزال الملك الكتاب السماوي لا يتوقف على سماع الفظ لجواز أن يتلقفه الملك تلقفا روحانيا لا جسمانيا بأن يلهم الله تعالى الملك ذلك المعنى القديم ويخلق فيه قدرة على التعبير عنه، ويسمى النظم الصادر عنه كلام الله تعالى باعتبار كونه عبارة عن الكلام النفسي دالا عليه. ثم إن الكلام اللفظي لكونه غير متحيز بالذات بل هو عرض قائم بالموضوع لا يكون إنزاله وتنزيله إلا تبعا لحامله ومبلغه فإنه تعالى لما نزل جبريل عليه السلام وحركه إلى أسفل وهو حامل للقرآن بأن أمره بالحركة إلى أسفل فتحرك هو بأمره تعالى فقد تحرك القرآن القائم به تبعا لحركته فينبغي أن يكون قوله: «نزل الفرقان» مجازا على طريق إطلاق اسم العرض الحال على المحل الذي هو ذلك الحامل فإنه هو المنزل بالذات والأصالة والقرآن منزل تبعا له، والمعنى نزل القرآن بواسطة تنزيل جبريل عليه السلام. ثم إن القرآن العظيم يصح أن يوصف بأنه منزل ومنزل لأنه تعالى أنزله جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا وأمر السفرة الكرام بانتساخه ثم نزله إلى الأرض إلى النبي عليه الصلاة والسلام منجما موزعا على حسب المصالح ووقوع الحوادث إلا أن في إنزاله إلى السماء الدنيا قولين: أحدهما: ما روي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر ثم نزل إلى الأرض في عشرين سنة. وثانيهما: أنه أنزل من اللوح إلى السماء الدنيا كل سنة مقدار ما يكون منزلا في سنة واحدة بحسب المصالح، فعلى هذا القول يقع الإنزال الدفعي عشرين مرة وعلى القول الأول يقع مرة واحدة. وإنما حمد الله تعالى على التنزيل دون الإنزال على أن التنزيل أعم وأكمل نعمة في حقنا بالنسبة إلى الإنزال إذ لا تظهر لنا فائدة في نزوله جملة إلى السماء الدنيا. والقرآن في الأصل مصدر بمعنى الجمع وبمعنى القراءة أيضا. يقال: قرأت الشيء قرآنا إذا جمعته. ويقال أيضا: قرأت الكتاب قراءة وقرآنا إذا تلوته، ثم نقل إلى هذا الجموع المقدر المنقول إلينا من دفتي المصاحف أي من جنبيها نقلا متواترا. وقد يطلق على القدر المشترك بين المجموع وبين كل بعض من أبعاضه وهذا هو المراد هنا بقرينة لفظ التنزيل. وفي بعض النسخ وقع لفظ «الفرقان» بدل «القرآن» وهو في الأصل مصدر بمعنى الفرق وهو الفصل بين الشيئين سمى به القرآن لفصله بين الحق والباطل بتقديره وبيانه، أو لأنه لم ينزل جملة واحدة ولكن مفرقا بعضه عن بعض في الإنزال وإنما قال: «على عبده» دون نبيه أو رسوله إشارة إلى أن العبودية أجل صفاته عليه الصلاة والسلام وأشرفها وذلك لأن أشرف ما سوى العبودية من صفاته عليه
مخ ۹