بسم الله الرحمن الرحيم قال جار الله العلامة، أحسن الله إكرامه في دار المقامة: " الحمد لله الذي أنزل القرآن كلاما مؤلفا منظما) دل بلامي الجنس والملك على اختصاص الحمد به تعالى، ثم وصفه بإنزال القرآن وتنزيله، وما أردفهما به رعاية لبراعة الاستهلال، وتنبيها على أنه نعمة جزيلة تستحق أن يحمد عليها، وذكر للقرآن أو صافا كمالية تناسب إعجازه الذي سيصرح به، ويشد من أعضاد كونه نعمة محمودا عليها ولما كانت هذه الصفات تدل على حدوثه كما هو مذهبه، وكان معتنيا بإظهاره ومفتخرا به، أشار إليه بجملة اعتراضية، ونبه أن الحدوث إنما لزمه لتنزه ذاته سبحانه عن الشركة في صفة القدم لا لنقصان فيه، وهذه جمل من مقاصده سترد عليك تفاصيلها وبالله التوفيق.
(قوله أنزل) يروى أنه وقع في أم النسخ خلق مكان أنزل ثم غيره المصنف، فإن صح ذلك فالتغيير لفوائد:
الأولى: أن الخلق إذا نسب إلى ما هو جنس القول فقد يراد به معنى الاختلاق، يقال خلق هذا الكلام واختلقه:
أي افتراه، فلا يحسن استعماله في هذا المقام وإن أريد به معنى آخر. الثانية: أن كون القرآن حادثا أمر شنيع عند الخصم، فأراد أن يكتمه أولا ثم أن يظهره بعد سوق مقدمات مسلمة عنده ومستلزمة للحدوث في نفس الأمر، فإن ذلك أقوى في استدراجه إلى التسليم من حيث لا يشعر به. الثالثة: الاحتراز عن التكرار، إذ قد حكم فيما بعد بحدوثه. الرابعة: أن الإنزال أدخل في كون القرآن نعمة علينا وأقرب إلينا لتأخره عن الخلق. الخامسة: أن الحمد على إنزاله وارد فيه دون الحمد على خلقه. السادسة: أن " أنزل " أحسن التئاما مع نزل لما بينهما من الصنعة الاشتقاقية.
السابعة: أن في الجمع بين الإنزال والتنزيل إشارة إلى كيفية النزول على ما روى من أن القرآن أنزل جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وأمر السفرة الكرام بانتساخه، ثم نزل إلى الأرض نجوما في ثلاث وعشرين سنة، وذلك
مخ ۳
أن الإنزال وإن كان مطلقا لكنه إذا قوبل بالتنزيل الدال هاهنا على التدريج فيما بين أجزاء القرآن، إما لدلالته على التكثير، وإما لما قيد به من التنجيم تبادر منه الإنزال دفعة.
فإن قلت: الموصوف بالحركة حقيقة هو المتحيز بالذات من الجواهر الأفراد وما يتركب منها دون الأعراض، فإنه يمتنع فيها ذلك سواء كانت أجزاؤها مجتمعة كاللون أن سيالة كالصوت الذي هو جنس الكلام، فكيف يتصور إنزال القرآن وتنزيله مع أنهما تحريك من علو إلى أسفل.
قلت: ذلك مبنى على متعارف أهل اللغة، حيث يصفون الكلام بما يوصف به مبلغه فيقولون: نزل إلينا من القصر حكم الأمير، وكلامه على سبيل الإسناد المجازى، وصاحب الكشف جعل وصفه بالتنزيل من هذا القبيل، وحمل الإنزال على إظهاره في اللوح المحفوظ، زاعما أن للقرآن حركة معنوية وهى الظهور بعد الكمون لازمانا بل ذاتا، وأن تلك الحركة من الأعلى رتبة وشرفا، لأن علو مرتبة واجب الوجود تعالى والقلم الأعلى على اللوح لا يخفى، وتفسيره كلامه على ما نقل عنه: أن القرآن كان كامنا في العلم الإلهي ثم أضهره الله تعالى بواسطة القلم الذي هو العقل الأول في اللوح المحفوظ الذي هو نفس الكل، وهذا الظهور ليس بزماني لأن الزمان مقدار حركة الفلك الأعظم وهو متأخر عما ذكر بمراتب. ويرد عليه أنه مبنى على قواعد الفلسفة، وأن كونه في علم الله لابد أن يكون أزليا، فإذا لم يتأخر الظهور في اللوح عن الكمون زمانا بل ذاتا كان أزليا، إذ لو كان حادثا لكان متأخرا زمانا اتفاقا، فيلزم قدم اللوح والقلم وذلك باطل قطعا. والقرآن في اللغة مصدر بمعنى الجمع، يقال قرأت الشئ قرآنا: أي جمعته وبمعنى القراءة يقال: قرأت الكتاب قراءة وقرآنا، ثم نقل إلى هذا المجموع المقروء المنزل على الرسول صلى الله عليه وآله ، المنقول عنه تواترا فيما بين الدفتين وهو المراد ههنا، وقد يطلق على القدر المشترك بينه وبين بعض أجزائه الذي له نوع اختصاص به، وما يقال من أن إثبات القرآن لما كان بالشرع وقد دل الشرع على اتصافه بصفات توجب حدوثه، وكان مقصود المصنف تفسير ذلك الحادث، صدر كتابه ببعض تلك الصفات مراعاة لبراعة الاستهلال ودلالة على ما هو أشهر مقاصد المعتزلة في علم الكلام، أعني مسألة حدوث القرآن فليس بشئ.
أما أولا فلأن القرآن عند المصنف هو هذه العبارات المنظومة، وهى معجزة اتفاقا، ومن شرط المعجزة أن تكون صادرة من الله تعالى، لأنها تصديق فعلى منه يجرى مجرى التصديق القولي كما بين في موضعه، فهذه المعجزة مالم تعلم أنها من الله تعالى تصديقا لمدعى الرسالة لم تثبت النبوة التي يتفرع عليها الشرع فكيف يجوز إثباتها به. وتفصيله أن وجود العبارات معلوم بحسب السمع وإعجازها، إما بالذوق السليقي أو المكتسب، وإما بالاستدلال كما ستعرفه، وإذا علم إعجازها علم أنها ليست بكلام البشر، وأنها كلام خالق القوى والقدر كما نص عليه العلامة فيما بعد، فتكون هي معجزة من عند الله دالة على صدق مدعى النبوة، فالعلم بثبوت الشرع يتوقف على العلم بثوبتها وإعجازها وكونها من الله، فلا يصح إثبات شئ من ذلك بالشرع، لا يقال نحن نثبت الشرع بمعجزة أخرى ثم نثبت به القرآن أو نثبته ببعض القرآن ثم نثبت به البعض الآخر. لأنا نقول: الأول باطل محض، لأنه بناء للشئ على ما هو دونه، فإن القرآن أبهر المعجزات وأظهر الدلائل، والثاني تحكم بحت، والتشبث بأمثال ذلك كتمسك الغريق بما لا يجديه نفعا، إذ لا يشتبه على أحد أن المعجزة لأن نثبت بها الشرع لا لأن تثبت بالشرع، نعم إثبات القرآن بمعنى الكلام
مخ ۴
النفسي عند القائل به إنما هو بالشرع، وأما ثانيا فلأن اتصاف القرآن بما ذكر من التأليف والتنظيم والتنجيم مثلا أمر ظاهر مكشوف ليس مما يستفاد من دلالة الشرع عليه.
واعلم أن للمعتزلة على حدوث القرآن دليلا عقليا هو تركبه من أجزاء يمتنع اجتماعها في الوجود كما سيأتيك تقريره، ودليلا سمعيا كقوله تعالى - ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث - فالأولى استدلال على حدوثه بما علم اتصافه به عقلا، والثاني استدلال بما ورد في الشرع ودل على حدوثه لا على اتصافه بما يوجب حدوثه كما توهمه هذا القائل.
فإن قيل: إذا كان القرآن عندهم حادثا لم يكن قائما بالله لتعاليه عن قيام الحوادث بذاته فلا يكون كلاما له.
قلنا: إنهم يجوزون قيام كلام الله بغيره ويقولون هو متكلم، بمعنى أنه موجد للكلام لا أنه محل له. ويرد عليه أن المتكلم على قاعدة اللغة في المشتقات كالمتحرك والأسود من قام به الكلام لا من أوجده، ومن ههنا ينتظم برهان على إثبات الكلام النفسي. والكلام في اللغة اسم جنس يقع على القليل والكثير. وعرفه بعض الأصوليين بأنه المنتظم من الحروف المسموعة المتميزة، وقد يزاد قيدان آخران فيقال: المتواضع عليها إذا صدرت عن واجد قادر، ويطلق في عرف النحاة على ما يفيد فائدة تامة، والمراد ههنا المعنى الأول الذي باعتباره يوصف صاحبه بأنه متكلم ويقابل الأعجم والأخرس و (كلاما مؤلفا) إما حال موطئة كما صرح به الزمخشري في قوله - إنا أنزلناه قرآنا عربيا - وإما حال مؤكدة تقرر ما تضمنه القرآن خصوصا على زعمه، ولابد في مجئ المؤكدة بعد الجملة الفعلية كقوله تعالى - قائما بالقسط - على ما صرح به أيضا، وأما النصب على البدلية أو على المدح ففيه فوات الملاءمة مع ما يناظره في القرينة الأخرى، أعني منجما فإنه حال قطعا. والتأليف جمع أشياء متناسبة كما يرشد إليه اشتقاقه من الألفة، والمراد به مطلق التركيب من المفردات والجمل. والتنظيم فوق التأليف لأنه من نظم اللؤلؤ ونحوه، فيراعى فيها مع المناسبة الجنسية وضع أنيق وترتيب بهيج، والمراد جودة التركيب وحسنه برعاية مقتضى الحال والتطبيق على الأعراض، فهو من باب عالم نحرير، والأشبه أن يراد بالتأليف فيما بين المفردات لتحصيل جملة مفيدة والتنظيم فيما بين الجمل، إذ قد يحتاج ههنا إلى مزيد تأنق فيكون من قبيل التأسيس بخلاف الأول، ويتضمن أيضا مشابهة ظاهرة بين آحاد الجمل المتناسبة التي يستقل كل منها بفائدة معتد بها وبين فرائد اللآلئ المتناسقة (قوله بحسب المصالح) أي بقدرها وعددها، يقال ليكن عملك بحسب ذلك: أي على قدره وعدده، والسين فيه مفتوحة وربما سكنت في ضرورة الشعر، والظرف أعني " بحسب " متعلق بقوله منجما أي موزعا مفرقا بعدد المصالح، والنجم في الأصل الكوكب، ثم نقل إلى الوقت المضروب المعين إذ يتعرفون الأوقات بالنجوم، فقيل نجوم الكتابة للأوقات المعينة لأداء حصصها، ثم استعمل في تلك الحصص المؤداة في تلك الأوقات، ثم اشتق العفل فقيل نجم الكتابة أو الدية: أي وزعها حصصها وأداها دفعات (قوله وجعله بالتحميد) أي جعله مفتتحا بالسورة المشتملة على التحميد، ولذلك سميت السورة فاتحة الكتاب، وجعله (مختتما) بالسورة المشتملة على الاستعاذة فكانت خاتمة الكتاب قياسا على فاتحته، ولم يرد أن لفظ التحميد أول جزء منه ليدل على أن التسمية ليست جزءا من سورة الحمد، ولا أن لفظ الاستعاذة آخر جزء منه ليحتاج في توجيهه إلى أن ما بعد الاستعاذة إلى آخر السورة متعلق بها فهو من تتمتها، وفى نسبة الجعل إلى الله سبحانه إشارة إلى أن ترتيب القرآن في المصحف على هذا الوجه
مخ ۵
المطابق لما في اللوح المحفوظ كان بأمر من الله وتعليم الرسول (قوله وأوحاه) تقول: ويحث إليه كلاما وأوحيت:
إذا كلمته بكلام تخفيه عن غيره (قوله على قسمين) ظرف مستقر وقع حالا عن المفعول، و (قوله متشابها ومحكما) معا بدل عن الحال: أي أوحاه متشابها ومحكما، وجوز النصب على التمييز من قسمين: لنوع إيهام فيه، أو على المدح، واستعماله منكرا أكثر، أو على أنه حال من المستتر في علي قسمين، وفيه بعد لأن تقييد كونه على قسمين بأنه في حال كونه قسمين مخصوصين مما لا يرتضيه ذوق سليم، أو على أنه حال أخرى مرادفة للأولى. ولا يخفى أن الإبدال أوقع في المعنى من جعل الأولى مقصودة بذاتها، أو على أنه بدل من محل المجرور، فإنه منصوب المحل بإيصال الجار معنى الفعل إليه، كما عطف على محله في قولك: مررت بزيد وعمرا: أي جاوزت زيدا وعمرا، وفيه ضعف ظاهر، إذ ليس لتقدير الناصب ههنا ظهور كما في المثال المذكور. ومنهم من قدر الكلام في الوجه الأخير هكذا أوحاه على متشابه ومحكم. واعترض عليه بأن هذا التقدير إنما هو على الإبدال من لفظ المجرور لو كان صحيحا لا على الإبدال من محله. فأجاب بأن المنصوب المحل هو المجرور وحده، فالتابع للمحل بمنزلة الواقع بعد حرف الجر، أو لا ترى أن معنى قوله * يذهبن في نجد وغورا غائرا * في غور، وهو مردود بأن التابع المنصوب لفظا لما هو منصوب محلا يحتاج إلى تقدير عامل ينصب المتبوع أولا ثم ينصب التابع إما بانسحاب أو بتقدير مثله، فالتابع للمنصوب بمنزلة متبوعه من حيث هو منصوب لامن حيث هو مجرور، فلا مجال لاعتبار الجار في التابع المذكور من حيث هو كذلك. وأما أن قوله غورا معناه في غور فلأنه ظرف لابد فيه بحسب المعنى من تقدير في، سواء كان معطوفا على محل المجرور كما في البيت، أو على منصوب لفظا كما لو قيل: يذهبن نجدا وغورا غائرا.
وقد فسر في آل عمران المحكم بما أحكمت عبارته بأن حفظت عن الاحتمال والاشتباه، والمتشابه بما تكون عبارته مشتبهة محتملة، فقوله والاشتباه عطف تفسيره كما تشعر به عبارته في تفسير المتشابه، فالمحكم عنده ما ليس فيه اشتباه والتباس: أي هو المتضح المعنى، والمتشابه خلافه فيندرج في المحكم النص والظاهر، وفى المتشابه المجمل والمؤول كما هو المصطلح عليه في أصول الشافعية، ولتقابلهما يشملان جميع أقسام النظم المذكور في أصول الحنفية (وفصله سورا وسوره آيات، وميز بينهن بفصول وغايات) سورا إما حال أو مفعول ثان على التضمين:
أي جعله سورا أو تمييزا: أي فصل سوره، وسيرد عليك في الكتاب معنى السورة في تفسير قوله - فأتوا بسورة من مثله - وهناك تذكر ما قيل في معنى الآية والضمير في بينهن للسور والآيات معا. وأراد بالفصول أواخر الآي لأنها تسمى فواصل، وبالغايات أو اخر السور، والمعنى أوقع التمييز بين السور بعضها مع بعض بالغايات، وبين الآيات بعضها مع بعض بالفصول. وقل يقال الضمير للآيات وحدها وأراد بالفصول الوقوف وبالغايات فواصل الآي.
فإن قلت: مساق الكلام يقتضى أن يكون لما وصف به الله تعالى كالإنزال والتنزيل ولما وصف به القرآن من التأليف والتنظيم مدخل في اقتضاء الحمد فما وجهه؟:
قلت: لما كان القرآن مرشدا للعباد إلى مصالح المعاش والمعاد كان إنزاله عليهم نعمة جزيلة وكونه مؤلفا منظما من مفردات وجمل على أحسن وجوه البلاغة وسيلة إلى أن تدرك منه مقاصد دينية ودنيوية على أبلغ وجه وأكمله فيوجب زيادة في تلك النعمة، وتمزيله منجما على حسب الحوادث فيه تسهيل ضبط الأحكام والوقوف على دقائق نظم الآيات.
وفى الافتتاح بالتحميد تنبيه للتالي على أن يحمد الله على نعمة التوفيق استجلابا للمزيد واستدامة للعتيد، وفى الاختتام
مخ ۶
بالاستعاذة حث لمن ختم القرآن على أن يستعيذ بر به من وسوسة الشيطان ونفخه، وإشارة لطيفة إلى أن العود إلى بدئه أحمد. وأما إيجاده محكما متشابها ففي المحكم سهولة الاطلاع على المقصود مع طمأنينة قلب وثلج صدر، وفى المتشابه فوائد أشار إليها العلامة يعنى المصنف: منها ما في تقادح العلماء، وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات. وأما تفصيله سورا وسوره آيات فسيأتي في الكتاب أن فيه تنشيط القارئ واغتباط الحافظ وتلاحق الأشكال والنظائر إلى غير ذلك (قوله وما هي إلا صفات مبتدأ مبتدع وسمات منشأ مخترع) أشار به إلى أن هذه الصفات المذكورة للقرآن من كونه مؤلفا منظما، وكونه منزلا منجما، وصيرورته مفتتحا ومختتما، وانقسامه إلى متشابه ومحكم، وكونه مميزا مفصلا تدل على حدوثه لاستلزامه تركيبه من أجزاء يمتنع اجتماعها في الوجود، فالمتأخر عند وجود المتقدم معدوم، والمتقدم عند وجود المتأخر منتف، وكل واحد منهما حادث، لأن العدم ينافي القدم سابقا ولاحقا: وأيضا المتأخر مسبوق بعدمه المقارن لوجود المتقدم فهو حادث قطعا، والمتقدم لا يتقدمه إلا بزمان قليل، فيكون حادثا أيضا، وكذا المركب منهما. لا يقال الاستدلال بهذا الطريق يكفيه تركبه من الحروف والكلمات الممتنعة الاجتماع كما هو المشهور في الكتب الكلامية، فأي فائدة لسائر الأوصاف. لأنا نقول: قد سبق أن هذه الصفات كلها مسرودة، لكونها أوصافا كمالية للقرآن، مناسبة للإعجاز مقتضية للحمد عليه، فليس إثبات حدوث مقصود بالذات، ولذلك جعله جملة معترضة فلا استدراك، على أن الاستظهار في إثباته مطلوب عنده، فكأنه قال: لا يجتمع من القرآن مفرد مع مفرد، ولا جملة مع جملة، ولا ما نزل في حادثة مع ما نزل في أخرى، ولا فاتحة مع خاتمة، ولا متشابه مع محكم ولا سورة مع سورة، ولا آية مع آية، وفى ذلك مع رعاية تلك المقاصد مبالغة في ذكر الصفات المستلزمة للتحري، كما بالغ في اقتضائها الحدوث بقوله " وما هي " الخ. وقد وجه الكلام بأن دلالة الإنزال على الحدوث من حيث إن الحركة المكانية مختصة بالأجسام وما يحل فيها وهى حادثة اتفاقا، وأما دلالة سائر الأوصاف من حيث إنها مستلزمة للتركيب المستلزم للإمكان الذي يلزمه الحدوث بناء على امتناع تعدد القديم، ورد عليه بأن الخصم لا يساعده على أن كل ممكن حادث، ويجوز تعدد القدماء. ثم إن الاستدلال بهذه الصفات إنما هو على حدوث العبارات المنظومة رداء على الحنابلة ومن يحذو حذوهم حيث زعموا أنها قديمة قائمة بذاته، لا على القائلين بالكلام النفسي لاعترافهم بحدوث هذه العبارات ويسمونها كلاما لفظيا لكنهم يدعون أن هناك كلاما نفسيا قديما قائما به تعالى، ولا خفاء أن الصفات التي استدل بها على الحدوث مخصوصة بالقرآن اللفظي، ولا دلالة لها على انتفاء القرآن بمعنى الكلام النفسي، ومن حكم بأن قوله " وما هي إلا صفات " من قصر الصفة على الموصوف، فقد نظر إلى حاصل المعنى كأنه قال: محصول كلامه أن هذه الصفات مختصة بالحادث لا توجد في غيره، وكل ما يصوف بها كان حادثا، فالرد عليه بأنه من قصر الموصوف على الصفة دون العكس قصور على ظاهر مفهوم العبارة " المبتدأ " ماله بدء زمان: أي أول زمان وجود و " المبتدع " ما أخرج عن العدم بديعا أي ممتازا بنوع حكمة فيه. و " المنشأ " المحدث من النش ء، وهو الظهور والارتفاع " و " المخترع " ما روى تأنق وتعمل في إخراجه من العدم مأخوذ من الخرج بمعنى الشق، وإذا استعمل بالنسبة إليه تعالى ما يدل على تكلف وطلب يراد به ما يلزمه من كمال الصنع وجودة المصنوع لأنه تعالى منزه عن التروي والاعتمال (قوله فسبحان من استأثر بالأولية والقدم ووسم كل شئ سواه بالحدوث عن العدم) هذه
مخ ۷
الفاء فصيحة من باب: فقد جئنا من خراسانا: أي إذا كان القرآن من علو شأنه ورفعة مكانه وكونه أقرب الأشياء إليه تعالى محدثا، فليتعجب المتعجبون من تفرده تعالى بصفة القدم ووسم جميع ما عداه بنقيصة سبق العدم، أو إذا كان كذلك فأنزهه عن كل وصمة وأبرئه عن كل نقيصة، وفيه رمز كما مر إلى أن الحدوث إنما لزم القرآن لاقتضاء ذاته تعالى التنزه عن الشركة في صفة القدم لا لنقصانه في نفسه، بل هو كامل في بابه كما نبه عليه حيث أردف المبتدأ بالمبتدع، والمنشأ بالمخترع، و " الاستئثار " التفرد والاستبداد. و " الأولية " السبق على ما سواه.
و (القدم) على المسبوقية بالعدم، وهما متلازمان وجودا لا مفهوما، فإن ما كان سابقا على جميع ما عداه كان قديما إذ لو كان حادثا لم يكن سابقا مطلقا لوجود القديم، وما كان قديما كان سابقا على جميع ما سواه لامتناع تعدد القدماء المتغايرة. ولما كان القدم هو المقصود جعل الأولية توطئة له ترقيا في الكلام. و " الشئ " في اللغة كما صرح به في سورة البقرة والأنعام يقع على المحال والمستقيم والجرم والعرض، فيختص هاهنا بالموجود بقرينة الحدوث عن العدم كما خص بالمستقيم في قوله تعالى - والله على كل شئ قدير - بقرينة القدرة، وأما الشئ بالمعنى المذكور في علم الكلام، فمما لا يلتفت إليه في أمثال هذا المقام وفى دعوى استئثار الذات بالقدم واتسام كل موجود سواه بالحدوث زيادة مبالغة في حدوث القرآن، ورد على مثبتي صفات زائدة على ذاته تعالى قديمة.
والمراد بالسبق والقدم والحدوث ما هو بحسب الزمان، لأنه المتبادر عند الإطلاق، فقوله " بالحدوث عن العدم " تنصيص على المراد بعد ظهوره ورعاية للسجع (قوله أنشأه كتابا) هو مع ما في حيزه بدل من أنزل، وما عطف عليه رجع به إلى ما كان فيه من بيان اتصاف القرآن بصفات الكمال بعد ما وقع في البيت من إثبات الحدوث وما تبعه من تنزيه الله تعالى، وقصد في هذا البد أن اتصافه بتلك الأوصاف الجليلة من التأليف والتنظيم والتنجيم والافتتاح والاختتام والتفصيل والتمييز إنما كان ليكون نظمه في إفادة معناه كاملا بسطوع تبيانه، ومعناه وافيا بما قصد به من الغرض بقطعية برهانه، واشتماله على بينات المنقول وحجج المعقول، وتباعده عن شوائب العوج، وكونه مفتاحا لمنافع الدارين، ومصداقا لسائر الكتب المنزلة قبله، بل ليكون نظمه البليغ في إفادة ذلك المعنى الوفى بالغا حد الإعجاز، ويقترن بذلك وعد كونه تبيانا لكل شئ بالإيجاز، وإنما قال أنشأه: أي أحدثه ابتهاجا بما أثبته من معتقده، وإن كان المقصود الأصلي هو القيود المذكورة لاكونه محدثا، وهذه المنصوبات: أعني كتابا ووحيا وقرآنا ومفتاحا ومصداقا، أحوال مترادفة أو مفاعيل ثانية بأن يضمن أنشأ معنى جعل وصير، والمراد إنشاؤه على هذا الوجه لأنقله من وجه آخر إليه، وفى ترك العطف إشارة إلى أن كل واحدة منها صفة كمال على حدة (قوله معجزا) إما أن ينخرط معها في سلكها، وإما أن يكون بدلا منها بأسرها، كأه قال أنشأه معجزا.
يقال سطح الصبح يسطع سطوعا: إذا ارتفع، شبه تبيان القرآن بتباشير الصبح المرتفعة في الوضوح والانجلاء، وأثبت له السطوح تخييلا، وعبر عن الدلائل النقلية بالبينات لظهورها، وعن العقلية بالحجج، إذ بها الغلبة على المخالف مطلقا، وقدم الأولى لأنها أكثر في القرآن وللترقي ورعاية السجع. وقيل ما يثبت به الدعوى يسمى بينة من حيث إفادته للبيان، وحجة من حيث يغلب به على الخصم، فالعاطف بينهما حينئذ قد توسط بين صفات ذات واحدة، والقرآن مفتاح ينفتح به باب الشريعة المشتملة على كل خير وسعادة في الآخرة والأولى، ومصداق
مخ ۸
الشئ ما يصدقه وبين صدقه كأنه آلة لصدقه، والقرآن بإعجازه مستغن في صدقه عن شهادة غيره، وبتصديقه لما تقدمه من الكتب السماوية شاهد صدق لها ومصداقها (بين يديه) حقيقة في المكان ثم اشتهر للزمان المتقدم مستعارا (قوله دون كل معجز) ظرف مستقر وقع حالا من المستكن في باقيان: أن متجاوزا في البقاء سائر المعجزات، وكذا قوله من بين مستقر وقع حالا من المستتر في دائرا: أي منفردا في الدوران من بين سائر الكتب الإلهية، إذ لم يعهد جريان باقي الكتب على ألسنة أرباب اللغات المتخالفة في الدهور المتطاولة (قوله وجه الزمان) استعارة بالكناية وتخييل، شبه الزمان لظهور بعض الأشياء الموجودة فيه دون بعض بشئ له ظاهر يبدو ما عليه وباطن يستتر ما فيه، فأثبت له الوجه من قولهم وجه الأرض لظاهرها فإنه شائع الاستعمال فيه، وجعل القرآن موضوعا عليه مبالغة في ظهوره. وقد تخيل بعضهم أن الوجه إما تخييل وإما مستعار للظاهر المكشوف من الزمان، وذهب عليه أن الزمان لا ينقسم إلى ظاهر مكشوف وإلى باطن مستور، فإذا جعل الوجه بمعنى الظاهر كان تخييلا لا قسيما له (قوله أفحم به) إما صفة ثالثة لمعجزا عدل فيها إلى الجملة الفعلية لملاحظة الحدوث وجاز وصفه لكونه بمنزلة الاسم كالممكن ونظائره، وإما استئناف بيان لإجازه على سبيل الإجمال كأنه قيل: لم قلت إنه معجز وبم عرفت ذلك؟ فأجاب بأنه أفحم: أي أسكت، ثم ترقى فقال أبكم، وأخذه من بكم قياسا إذ لم يشتهر فعل بنى منه سوى ما نقله في الأساس من قوله: تكلم فلان فتبكم عليه: إذا أرتج عليه، وقد يجعل استعماله إياه بمنزلة روايته له فإنه ثقة في اللغة (المعارضة) أن يأتي إلى صاحبه بمثل ما أتى به و (العرب العرباء) هم الخلص منهم كالعرب العاربة، أخذ من لفظه فأكد به كقولك: ظل ظليل، وليل أليل. وفائدة لفظة به بعد أفحم وأبكم الإشعار بأن إعجاز القرآن كما هو المختار المشار إليه بسياق كلامه إنما هو بكلام بلاغته، لا بالصرفة كما يتوهم من إسناد الإفحام والإبكام إليه تعالى لولا تقييدهما بالظرف، والتحدي طلب المعارضة وأصله في الحاديين، يقال خطيب مصقع:
أي بليغ مجهر بخطبته، إما من صقع الديك إذا صاح، وإما من الصقع بمعنى الجانب، لأنه يأخذ في كل جانب من الكلام، وإما من صقعه إذا ضرب صوقعته: أي وسط رأسه كما يأتي في قراعة من قرء - من الصواقع حذر الموت - (فلم يتصد) يتعلق بأفحم ولم ينهض بأبكم، وتلخيص معناه أنه طولب بمعارضته فصحاء العرب فأفحمهم، فلم يتعرض للإتيان بما يساوى القرآن أو يقاربه واحد منهم، وتحدى به بلغاؤهم فأبكمهم به، فلم يقم بمقدار أقصر سورة ناهض منهم. ففي الكلام ترق حيث نسب الإفحام إلى فصحائهم وأظهر عجزهم عن مجموعه، ثم نسب الإبكام إلى بلغائهم وبين قصورهم عن أقصر سورة (على أنهم) حال من البلغاء لأنه فاعل في المعنى: أي لم ينهض بلغاؤهم على أنهم كانوا، فالضمير لهم أو من البلغاء والفصحاء معا فالضمير لهما جميعا، فالعامل في الحال على الوجهين معنى النفي: أي تركوا التصدي والنهوض حال كونهم كذا، لا المنفى لفساد المعنى، وجدوى هذه الحال إزالة ما عسى أن يتوهم من أنهم ربما كانوا قليلين يمكن أن يغلب عليهم واحد من جنسهم فلا يثبت الإعجاز لعجزهم وكلمة على في " على أنهم " تدل على رسوخهم في صفة الكثرة واستقرارهم واستعلائهم عليا، فما قيل من أنها بمعنى
مخ ۹
مع فهو حاصل المعنى، وسيأتيك في نظيرتها زيادة تحقيق لها، و (البطحاء) مسيل واسع فيه دقاق الحصى، و (الدهناء) بالمد وقد تقصر أرض ببلاد تميم ذات رمال كثيرة، و (لم ينبض) أي لم يتحرك عطف على لم يتصد مع ما عطف عليه والضمير في (منهم) للفصحاء والبلغاء مضافين إلى العرب العرباء كأنه قيل: ولم ينبض من فصحائهم وبلغائهم، فيظهر رجوع الظمائر في قوله " مع اشتهارهم " وما بعده إلى العرب العرباء مطلقا على ما ينبغي من غير تفكيك بينها في النظم، و (العصبية) المحاماة وإضافة العرق لأدنى ملابسة: أي العرق الذي يتحرك عندها، وجاز أن يكون عرق العصبية استعارة مكنية وتخييلا ولم ينبض ترشيحا (مع اشتهارهم) حال من الضمير المجرور في منهم، وفائدتها دفع ما ربما يتخيل فيهم من المساهلة في تلك المعارضة والمحاماة (المضادة) المعاداة (والمضارة) الضرار، و (الشراشر) الأثقال واحدة شرشرة، يقال ألقى عليه شراشره: أي ثقله وجملته حرصا ومحبة (المعازة) بالزاي المعجمة المغالبة، وبالراء المهملة المضارة، من قولهم فلان يعر قومه: أي يدخل عليهم مكروها، أراد أنهم كانوا أعلاما في المغالبة والعصبية، يتحركون في المحاماة حرصا بالكلية، ثم لم يتحرك في معارضة القرآن أضعف عضو منهم لتناهى عجزهم في هذه القضية، وإنما تنجلى هذه النكتة على تقدير الإضافة لأدنى ملابسة لا على التخييل، لأن العرق حينئذ للعصبية لا لهم (دون المناضلة) أي قدام المراماة والمدافعة وفى أدنى مكان منها، و (الحسب) ما يحسبه الإنسان:
أي يعده من مفاخر نفسه أو آبائه، و (الخطط) عظائم الأمور وشدائدها جمع خطة بالضم، و (الشطط) مجاوزة الحد، و (المفخرة) بفتح الخاء وضمها وكسرها كل خصلة يفتخر بها، و (المأثرة) بالضم والفتح المكرمة لأنها تؤثر:
أي تذكر، والشرطيتان أعني إن أتاهم وإن رماهم بيان وتحقيق لما تقدمهما من الإفراط في المضادة وإلقاء الشراشر على المعازة ولقاء الخطط في المحافظة على الأحساب والذب عنها وركوب الشطط في كل مرام، ولفظة أحد بمعنى الواحد من العدد، وجاز أن يكون اسما لمن يصلح أن يخاطب به مطلقا إذا أول الكلام بالنفي: أي ما أتاهم أن بمفخرة إلا أتوه بمفاخر، إذ لا يستعمل في الإثبات إلا مع لفظة كل (قوله وقد جرد) جملة معترضة ذيل بها الكلام تقريرا وتأكيدا لجميع ما تقدم من أفحم إلى هذا المقام وفائدتها نفى أن يتوهم أنهم أهملوا في المعارضة طريقتهم المعهودة قلة مبالاة بها، إذ لا يتصور إهمالهم فيها مع إلجائهم عليها وقيل جملة حالية وعاملها إما فحم: أي أسكتهم عن المعارضة قاسرا لهم عليها بتجريد السيف عقيب الحجة، وإما لم يتصد: أي لم يتعرضوا لها حال كونهم مقسورين عليها، وفيه بحث لأن قوله " فلم يعارضوا " معطوف على " قد جرد " فهو حينئذ من تتمة الحال وتقييد الإفحام وترك التصدي بعدم المعارضة مما لا طائل فيه، وتجريد الحجة: تعريتها عن ملابس الشبهات، وتجريد السيف: انتضاؤه وتعريته عن عمده، فأريد به القدر المشترك بينهما، وأسند إلى الله مجازا لأنه الآمر به. وقيل تجريد الحجة منسوب إلى الله حقيقة، ويضمن في المعطوف فعل مثله ويسند إليه مجازا. وجاز أن يراد بالتجريد الإظهار مجازا ويسند إلى الله حقيقة: أي أظهر الحجة على لسان رسوله والسيف على يده: أي يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، و (أولا) نصب على ظرفية بمعنى قبل: أي أبدأ بهذا أول، فيضم على الغاية كقوله افعله قبل
مخ ۱۰
وأما الذي مؤنثه الأولى فغير منصرف (إلا السيف وحده) من قبيل وضع المظهر موضع المضمر زيادة تصوير لمتعلق المعارضة، وأما قوله (على أن السيف) فليس من هذا القبيل إذ المراد به الجنس لا السيف الذي جرد.
الظرف حال يبين أن معارضتهم بالسيف مع الخلو عن الحجة مما لا يعتد بها، وقد أحاطوا بذلك علما، والعامل فيها لم يعارضوا بعد انتقاض النفي: أي عارضوا بالسيف وحده عالمين بهذه القضية مستعلين عليها: شبه حالهم في العلم بها وإتقانها بحال من اعتلى الشئ وركبه، فاستعير لها كلمة على، هذا ما وعدناك تحقيقه، والقاضب: القاطع (والمخراق) منديل يلف ليضرب به عند اللعب (وإمضاء الحجة حد السيف) تقوية شأنه وترجيح جانبه كأنها تجعل حده: أي غراره قاضبا: أي قاطعا، ولا يخفى على كل ذي مسكة أنهم إذا آثروا المحاربة بالسيف والسنان وبذل الأرواح على المقاولة باللسان مع علمهم بأنهم ليسوا في ذلك على شئ، فقد شاهدوا عجزهم عن المعارضة بالمرة وأحاطوا به علما، فلذلك قرعة عليهم قائلا (فما أعرضوا الخ) (زخر البحر) أي ماج وامتلأ (وطم) أي غلب وعلا، يقال جاء السيل فطم على الركية: أي دفنها وسواها (والكواكب) الأول جمع كوكب الماء وهو مجتمعه والثاني جمع كوكب السماء. مثل أولا حالهم في تلاشى شبههم واضمحلال مزخرفاتهم لظهور المعجزة الباهرة والحجة البالغة الظاهرة بحال كواكب المياه وغدر انها في اندراسها بزخر البحر الخضم وطمه عليها، وثانيا بحال الكواكب حين أشرقت عليها الشمس وطمست أنوارها ومحت آثارها. وقد يقال أستعير البحر والشمس لبلاغة القرآن والكواكب بالمعنيين لبلاغاتهم، ثم رشحت باستعارة الزخر والإشراق لظهورها، واستعارة الطم والطمس لغلبتها عليها، وهو تكلف مستغنى عنه (قوله والصلاة) معطوف على التحمد الذي بناه على الإنزال والايحاء، ولما قصد زيادة الملاءمة بينهما قال (خير من أوحى إليه) دون أرسل، وليس في أوحى ضمير راجع إلى القرآن لفساد المعنى، بلى الظرف قائم مقام فاعله. فضله أولا على الأنبياء ثم وصفه بما هو منشأ كل سعادة وكمال، ثم كناه وسماه استلذاذا وتبكرا، ثم ذكر نسبة العالي إلى هاشم، ثم شرع في حسبه فذكر علو شأنه وظهور سلطانه، وقدم فيه الجد الأعلى وهو لؤي على الأدنى وهو قصي، لأن رفعة القطر ونفاذ الأمر في أعلى القبائل أدل على عظم المكانة. ثم عقب بذكر باقي أحسابه من كونه مثبتا بالعصمة مؤيدا بالحكمة: أي العلم المشفوع بالعمل واشتهار فضائله وكونه نبينا أميا مبشرا به في الكتاب السابقة (اللواء) العلم (وذي اللواء المرفوع في بنى لؤي) كناية عن سيادته عليهم وكونه مطاعا فيهم (ذي الفرع) أي ذي العلو والرفعة من قولهم فرعت القوم: علوتهم بالشرف أو بالجمال، و (المنيف المشرف العالي من أناف على كذا أشرف عليه، ويجوز أن يراد بالفرع الغصن، فشبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء مستظل بها، فذي استعارة مكنية، والفرع تخييل، والمنيف ترشيح. وأن يراد به السيد يقال هو فرع قومه: أي سيدهم فيكون تجريدا مبالغة في سيادته. وقد يقال الفرع مستعار لأولاده، إشارة إلى شرف فروعه كأصوله أو للنبي، وذي الفرع صفة لؤي، وذي اللواء صفة هاشم، ولا
مخ ۱۱
يخفى بعدهما (الغرة) البياض في جبهة الفرس يقال شدخت الغرة اتسعت (والتحجيل) البياض في قوائمه يقال فرس محجل، وقد حجلت قوائمه تجيلا، وهو أعني الغرة والتحجيل مستعاران ههنا للشرف والكمال، كما أن الشدوخ والوضوح مستعاران لاشتهارهما، فقد أشير إلى اشتهار جميع أنواع فضائله وكمالاته من قرنه إلى قدمه، وتستعمل الغرة وحدها في الشرف مستعارا مشهور، يقال رجل أغر: أي شريف، وفى الاشتهار وفى الامتياز مجازا مرسلا كقوله * مبارك الاسم أغر اللقب * أي مشهور اللقب دون التحجيل وحده. وأما قوله عليه الصلاة والسلام " أن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل " فالظاهر منه أن المراد الأنوار المتلألئة من آثار الوضوء على تلك المواضع، وقد يحمل على امتيازهم واشتهارهم بين الأمم في ذلك اليوم بسبب هذه العبادة، و (الأمي من لا يكتب منسوب إلى أمة العرب المشهورين فيما بين الأمم بعدم الخط والكتابة أو إلى أم القرى لأن أهلها كانوا شهر بذلك، أو إلى الأم: أي كما ولدته أمه، وكونه عليه الصلاة والسلام أميا صفة مدح له تشهد بنبوته وتنفى ارتياب المبطلين، حيث أتى بالعلوم الجمة والحكم الوافرة وأخبار القرون الخالية بلا تعلم خط واستفادة من كتاب، وقد طابق بين الأمي والمكتوب: أي ليس بكاتب بل هو مكتوب (قوله وعلى آله) أراد أهل بيته لتبادره عند الإطلاق، و (الأطهار) جمع طهر بمعنى طاهر كعدل بمعنى عادل، فإن فاعلا لا يجمع على أفعال كما نص عليه الجوهري (من الأختان والأصهار) في الصحاح أن الختن عند العامة: زوج الابنة، وعند العرب: كل من كان من قبل المرأة كالأب والأخ. والصهر أهل بيت المرأة، وأراد الزمخشري بالأختان متعارف العامة، وبالأصهار حقيقته، وتقديم الأختان للسجع، ومن للتبعيض لأن الخلفاء الراشدين كانوا بعض أصهاره وأختانه، وجاز أن تجعل للبيان لأن أقل الجمع عنده اثنان (وعلى جميع المهاجرين والأنصار) أي على جميع الصحابة، كما يقال الله خالق السماوات والأرض: أي خالق كل شئ، وفى تخصيص الخلفاء من بينهم وتقديمهم عليهم تنويه بشأنهم (قوله اعلم أن متن كل علم) شرع في فن آخر من الكلام فلذلك فصله عما تقدمه، وإنما صدره بالأمر مؤكدا بأن حثا على التشمر لتحقيقه، فإنه أساس لما هو بصدده من انحصار بيان تفاوت الرتب في النكت. والمتن هو الظهر، وهو قوام البدن ينبنى علها سائر أعضائه، فاستعير لأصل العلم وهو أمهات مسائله، إذ يتقوم بها نكته ولطائفه. والعمود: الخشبة التي في وسط الخيمة يستند إليها قيامها، فاستعير لعمدة الصناعة لأنه يتفرع عليها شعبها ودقائبها. والعالم إن لم يتعلق بكيفية عمل كان المقصود في نفسه ويسمى علما، وإن كان متعلقا بها كان المقصود منه ذلك العمل، ويسمى صناعة في عرف الخاصة وينقسم إلى قسمين: ما يمكن حصوله بمجرد النظر والاستدلال كالطب مثلا، وما لا يمكن حصوله إلا بمزاولة العمل كالخياطة. وهذا القسم يخص باسم الصناعة في عرف العامة. والوجه في التسمية على العرفين أن حقيقة الصناعة صفة نفسانية راسخة يقتدر بها على استعمال موضوعات ما نحو غرض من الأغراض على وجه البصيرة بحسب الإمكان كما يشعر به كلام المصنف حيث قال: كل عامل لا يسمى صانعا ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب، ولا شك أن العمل المقصود من العلم لا يتم كماله إلا بأن يتمرن صاحبه في ذلك العلم ويصير العمل ملكة له، ولما كان علم التفسير مشتملا على المعارف الإلهية والأحكام العملية جاز أن يطلق عليه كل
مخ ۱۲
من هذين الاسمين، وإطلاق العلم أولى لأنه الأكثر والأشهر والأشرف. ثم الظاهر أن المراد بالصناعة ههنا متعارف العامة، وأن ذكر الصناعات لمشابهتها العلوم في أن تفاضل مراتب أصحابها بحسب الدقائق دون الأصول.
فإن قلت: علم الكلام لا تعلق له بكيفية عمل فكيف سماه صناعة؟ قلت: ذلك على سبيل التشبيه لأنه لدقته وغموضه لا يتحصل إلا بمناظرات متعاقبة ومراجعات متطاولة ولذلك سمى كلاما فله نوع تعلق بالعمل. وقد يقال: كل علم مارسه الرجل حتى نسب إليه وصار كالحرفة له يسمى صناعة سواء أكن متعلقا بالعمل أولا (طبقات العلماء) درجاتهم (فيه) أي في متن العلوم (وأقدام الصناع) منازلهم (فيه) أي في عمود الصناعات، وقد أشار بتخصيص كل من الطبقات والأقدام بموضعه إلى إنافة العلوم على الصناعات، واقتصر في طبقات العلماء على التداني، وردد في أقدام الصناع بين التقارب والتساوي بناء على استبعاد التساوي في قواعد العلوم دون الصناعات.
لا يقال قوله طبقات العلماء مع ما في حيزه مغير عن المعطوف عليه وحده، أعني متن، وقوله " وأقدام الصناع " مع ما في حيزه خبر عن المعطوف وحده أعني عمود كل صناعة، فكيف جاز عطف أحد الخبرين على الآخر. لنا نقول:
قد صرح النحاة بأن الخبر إذا تعدد لتعدد المخبر عنه حقيقة وإن كان متحدا لفظا لا يستعمل الخبران بغير عطف كقوله: يداك يد خيرها يرتجى * وأخرى لأعدائها غائظه فإذا كان المخبر عنه متعددا حقيقة ولفظ معطوفا بعضه على بعض كان العطف في الخبر أولى ليكون على وتيرة المخبر عنه، والسر في العطف أن مآل المعنى وإن كان إلى التوزيع إلا أن القصد بحسب الظاهر لأمن الإلباس إلى ربط المجموع بالمجموع، فلا بد من أداة الجمع، كأنه قيل: مراتب العلماء والصناع في أصول العلوم والصناعات متقاربة، وقد توهم أنه نظير قولك: زيد وعمرو قام أبوه وذهب أخوه، على أن يكون أحد الضميرين لزيد والآخر لعمرو، وأنه لابد في مثله من اعتبار تقديم وتأخير وهو منظور فيه، لأنه إذا اعتبر تقديم خبر المعطوف عليه على المعطوف لم يبق للواو في خبر المعطوف وجه، وجعله لتأكيد لصوق الخبر بالمخبر عنه قصور وعجز. ثم إن المثال المشبه به إنما يصح إذا لم يكن القياس في اختصاص كل خبر بما هوله، ويكون حينئذ محمولا على ما قدرناه من ربط المجموع بالمجموع اعتمادا على فهم السامع (إن سبق هو مع ما عطف عليه بيان وتأكيد للتداني والتقارب المذكورين، واختار صيغة الماضي لأن المعنى على المضي أوقع. كأنه قيل إن كان سبق، ويشهد له قوله تباينت وتحاكت، واستعملت إن دون إذ لأن الشك في السبق أقرب إلى قلة التفاوت وثبوت التضارب، وذكر الخطأ والمسافة تشبيها للسبق في المراتب العقلية بالسبق في المسافات الحسية تصويرا له وتمكينا في الأذهان، ولا شبهة في أن الخط أنسب بالأقدام والمسافة بالطبقات، إلا أنه لاحظ جانب المعنى فقط (قوله وإنما الذي) هذا الخ معطوف على اعلم، وما في حيزه عطف قصة على قصة لا يلاحظ فيه مناسبة لخصوص جملة مع أخرى، ولك أن تقول:
كلمة اعلم، حث على التوجه نحو الخير الذي هو المقصود ، فهو عطف بحسب المعنى على ذلك المقصود مجردا عن هذه الكلمة، كأنه قال: إن متن كل علم وعمود كل صناعة ليس فيه تفاوت يعتد به وإنما الذي تباينت، وهذا أدق وأحسن. وقد يتخيل أن الهمزة مفتوحة عطفا على ما بعد اعلم، وفيه وجوه من المبالغة التخصيص، فإنه بالقياس إلى القواعد والأصول وقد علم انتفاء التباين فيهما، ودلالة إنما على ظهور الحصر وإيراد المبتدأ موصولا
مخ ۱۳
تشتمل صلته على ما يشوق إلى الخبر تشويقا تاما، وإيراد الخبر بينهما وتعقيبه بالتفسير (تحاكت) أي تصاكت كناية عن شدة السعي وفرط المجاهدة في المسابقة. وقيل كناية عن تحاثي المتناظرين للمباحثة وبعده ظاهر. وقوله (حتى انتهى الأمر) أي في التباين والتفاضل غاية لقوله تباينت وما عطف عليه، أو لقوله عظم التفاوت والتفاضل وحده. وقوله (إلى أن عد) ناظر إلى قوله البحتري:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتا * لدى المجد حتى عد ألف بواحد وفى عد ألف بواحد مبالغة ليست في عكسه حيث جعل الواحد أصلا قوبل به الألف، مع أن لفظ العد بالكثير أولى (المحاسن) جمع حسن على غير القياس كأنه قيل محسن (والنكتة) من النكت كالنقطة من النقط، ونكت الكلام أسراره ولطائفه لحصولها بالفكرة التي لا يخلو صاحبها عن نكت في الأرض بنحو الأصبع، بل لحصولها بالحالة الفكرية الشبيهة بالنكت (والفقر) جمع فقرة بسكون القاف، وهى في الأصل حلى يصاغ من ذهب على هيئة فقار الظهر، يستعار أولا لدقائق المعاني الشبيهة بذلك المصوغ، وثانيا لما هو في النثر بمنزلة البيت، إذ لا يخلو عن دقيق معنى غالبا عبر عن دقائق العلوم والصناعات بعبارات مختلفة نظرا إلى جهات متفاوتة، فسماها أولا بمحاسن النكت والفقر، وثانيا بلطائف معان، وثالثا بغوامض أسرار. ونكر الأخيرين قصدا إلى التفنن بإيراد طريقين التعريف والتنكير، وأيضا المنكر بالوصف أولى، وكرر الجار أعني كلمة من تنزيلا لتغاير الجهات منزلة تغاير الذوات. وقوله (لا يكشف) تأكيد وتقرير لمعنى الأصحاب، ومفعوله محذوف: أي لا يكشف الأستار (عنها) أي عن غوامض الأسرار، ومن ههنا يعلم أن مؤدى تلك العبارات ذات واحدة وإلا اختل نظام الكلام (من الخاصة) صفة مقدر هو فاعل: أي لا يكشف عنها أحد من الخاصة، و (أوحدهم) بدل منه وقد يجعل هو فاعلا من الخاصة حالا منه قدمت مرجعا للضمير، وفيه أن الأوحدي المضاف إلى ضمير الخاصة لا محالة يكون بينهم، فلا فائدة في هذه الحال سوى تأكيد نسبته إليهم، ويا ء النسبة في الأوحدي للمبالغة كالأحمري منسوب إلى اللفظ تنبيها على أنه عريق في معنى الواحدة يستحق أن يعبر عنه بالأوحد وينسب إليه (واسطتهم) أي خيرهم وأفضلهم من واسطة القلادة لأجود جوهرة في وسطها (وفصهم) أي مختارهم من فص الخاتم عقب الأوحدي بالأخص والواسطة بالفص لشدة ملاءمة بينهما، وأعاد كلمة إلا في الأخيرين إشارة إلى أنه باعتبار اتصافه بهما كأنه شخص آخر يستحق أن يستثنى مرة أخرى مبالغة في إثبات الحكم له من جهات متعددة، أو إلى أنه قصد استثناء آخر فلم يجد غيره، فاستثناء بحسب صفة أخرى تأكيدا لنفى الحكم عن غيره. وقيل الإعادة لعدم مجانستهما للأولين فلا يحسن انخراطهما في سلكهما، وهو قصور على ملاحظة اللفظ، والضمير في (عامتهم) للخاصة أي أكثر الخاصة عماة، والعمى يستعمل في البصر يقال رجل أعمى وقوم عمى، وفى البصيرة يقال رجل عمى القلب وقوم عمون، فإن حمل على الأول كان مستعار العمى البصر والأحداق ترشيحا، وإن حمل على الثاني كان الأحداق مستعارا للبصائر، وإنما عدل عن قياس الجمع إلى عماة جمع عام لمشاكلة عناة، وضمير (حقائقها)
مخ ۱۴
الغوامض الأسرار، و (بأحدافهم) متعلق بإدراك: أي لا يظهر لهم ظهور المحسوس، و (عناة) جمع عان وهو الأسير: أي هم أسراء في يد التقليد لا خلاص لهم أصلا، وكانت عادة العرب في إطلاق أسراهم جز نواصيهم إهانة وإذلالا. وقوله (ثم إن أملأ العلوم) عطف على اعلم مع ما عطف عليه، وفيه مبالغات من وجوه لتقرير ما يدعيه في ذهن السامع ونفى الشبهة عنه التأكيد بأن وإيراد المسند إليه مبهما مشوقا إلى المسند مع الإطناب فيه وتوصيف المسند إجمالا بما يزيده فخامة ويجل موقعه في الأذهان وإرادفه بتفصيله مبسوطا ومشروحا، وفائدة لفظ ثم التنبيه على أنه ينبغي أن يتئد السامع في تحقيق ما قدمناه من أن التفاوت بنكت العلوم لا بأصولها حتى يصير منه على ثقة وطمأنينة، ثم يتحقق أن أشمل العلوم على النكت واللطائف على التفسير، فيكون الاختلاف بين مراتب المفسرين أكثر (أملأ) أفعل من ملئ بالكسر: أي امتلأ فهو ملآن على ما ذكره في المقدمة: أي أشد العلوم امتلاء، وأخذه من ملؤ بالضم: أي غنى بعيد لاستلزامه تشبيه النكت بالأموال، وكذا أخذه من ملأ بالفتح على أنه للمفعول لأنه قليل، وأما كونه بمعنى الفاعل: أي أملأ العلوم للقرائح بما يغمرها فلا منع منه، لأن ملأت الإناء من الماء وبالماء كلاهما صحيح، لأن المل ء يبتدئ منه وهو آلة له ولعله أظهر، وذلك لأن ملأ بالفتح أشهر استعمالا من ملئ بالكسر، وإن جعل العلوم ظرفا لدقائقها على خلاف ما هو المعتاد من أن المظروف ليس جزءا من الظرف، وأن الغمر الذي هو ترشيح الاستعارة حيث كان منسوبا إلى القرائح، فالظاهر أن الامتلاء منسوب إليها أيضا فإنها تمتلئ أولا ثم تصير مغمورة: أي مستورة، وأن لطائف العلوم تحيى القلوب، فهي بالقياس إليها أشبه بالماء منها بالقياس إلى العلوم (والقريحة) الطبيعة وهى في الأصل أول ماء يستخرج من البئر لحصوله بالكدح والتأثير، وأطلقت على ما يقع في القلب بغتة بعد سابقة طلب، ثم نقلت منه إلى محله أعني القلب (وأنهض) أفعل من نهض بالأمر قام به (يبهر) يغلب، و (القوارح) الكوامل الثوابت جمع قارح، وهو من ذي الحافر: أي ما تكامل سنه وبلغ أشده (يلطف مسلكها) أي يدق طريق الوصول إليها فلا تسلك إلا بفكرة صائبة (والسلك) الخيط ودقته كناية عن لطافة الجواهر المنظومة فلا يدرك إلا ببصيرة ثاقبة، جمع بين غرابة النكت ولطف المسلك إشارة إلى معنى قوله من محاسن النكت، ومن لطائف معان، وجعل قوله (ومستودعات أسرار) بإزاء قوله " ومن غوامض أسرار " (التفسير) علم يبحث فيه عن أحوال كلام الله المجيد من حيث دلالته على مراده، وينقسم إلى تفسير وهو مالا يدرك إلا بالنقل كأسباب النزول والقصص فهو ما يتعلق بالرواية، وإلى تأويل وهو ما يمكن إداركه بالقواعد العربية وهو ما يتعلق بالدراية، فالقول في الأول بلا نقل خطأ، وكذا القول في الثاني بمجرد التشهي وإن أصاب فيهما، وأما استنباط المعاني على قوانين اللغة فمما يعد فضلا وكمالا (لا يتم) أي لا يكمل ولا يصلح (لتعاطيه) لتناوله (كما ذكر) نصب على المصدر: أي أذكر لك عدم صلاحية كل ذي علم لتعاطيه كل ذي علم إشارة إلى أن الجاحظ ذكرا مثل ذكره، ولا نقل هاهنا لكلام الجاحظ أصلا بل لما ادعى إجمالا أنه لا يتم لتعاطيه كل إلى أن الجاحظ ذكر هذا المعنى في كتابه تأييدا لما ادعاه. ثم فصل كلامه المجمل بقوله (فالفقيه الخ) وهذا الفاء أعدل شاهد لما ذكرناه عند من له دربة بأساليب الكلام وذكر بعض من أثق به أنه رأى كتاب نظم القرآن فلم يكن شئ من هذه العبارات فيه، وعلى هذا فقد سقط مؤنة تعيين منتهى كلامه وتوجيه ما قيل فيه (برز عليه) أي
مخ ۱۵
فاق، و (الأقران) الأكفاء جمع قرن بالكسر، وفى المغرب أن اشتقاق الفتوى من الفتى لأنه جواب في حادثة أو إحداث حكم أو تقوية لبيان مشكل، يعنى أنه يلاحظ في الفتوى ما ينبئ عنه الفتى من الحدوث والقوة (بز) غلب، و (القصص) بكسر القاف جمع قصة، و (ابن القرية) بكسر القاف وتشديد الراء المكسورة أحد فصحاء العرب واسمه أيوب، والقرية اسم أمه، وهى في الأصل حويصلة الطائر كان من الحفاظ، نقل الكتب القديمة إلى العربية، قتله الحجاج فقال عند القتل: لكل جواد كبوة، ولكل شجاع نبوة، ولكل حكيم هفوة، فصارت أمثالا (الحسن البصري) هو المكنى أبا سعيد من أكابر التابعين، لقى عليا عليه السلام في المدينة، وكان مشهورا بالحكم والمواعظ، فإذا أطلق الحسن في الكتاب فهو المراد، قدم المصنف كلمة من على أفعل التفضيل في موضعين محافظة على السجع، و (أنحى) من نحا ينحو إذا نظر في علم النحو وتكلم فيه، ومنه النحاة جمع ناح (واللحى) منبت اللحية، عبر بعلك اللغات عن ضبطها وإتقانها ودل على سهولة مأخذها: أي يكفي فيها تحريك اللحيين باستعمال اللسان، و (لا يتصدى) خبر لقوله " فالفقيه " وما عطف عليه، وهذه الشروط: أعني قوله " وإن برز " وأخواته وقعت أحوالا، وقد جردت عن معنى الشرط فلا تحتاج إلى تقدير جزاء، فإن جوز انتصاب الحال من المبتدأ بمعنى انتساب الخبر إليه في حال كونه كذا، فكل واحد من الفقيه وما عطف عليه صاحب الحال التي تليه، وإلا فصاحب الحال هو أحد بحسب تفصيل معناه: أي لا يتصدى منهم الفقيه مبرزا على أقرانه وكذا، وإبراز الحال في صورة الشرط إيذان بأن هذه الأمور غير واقعة بل مفروضة، كأنه قيل مفروضا تبريزه على أقرانه وغلبته على أهل زمانه، وفى التقييد بأهل الدنيا إشعار بعظم التفاوت في صناعة الكلام، و (تلك الطرائق) إشارة إلى قوله مسلكها، و (تلك الحقائق) إلى قوله مستودعات أسرار، يقال غاص في الماء على اللؤلؤ: أي حصله واستعلى عليه (إلا رجل) مستثنى من أحد فهو في المعنى استثناء من كل ذي علم (برع) بالضم والفتح فاق، والباء في قوله (مختصين بالقرآن) إن كانت داخلة على المقصور عليه كما هو أصل اللغة: فالمعنى أن استعمالهما في القرآن أكثر وكأنهما دونا لمعرفة أسرار بلاغته ودلائل إعجازه فهما للقرآن لا لغيره، وإن جعلت داخلة على المقصور كما هو المشهور في الاستعمال فالمعنى: أن الاطلاع على فرائده والكشف عن وجوه خرائده لا يحصل إلا بهما فهو لهما لا لغيرهما (تمهل) أي اتأد من المهل بسكون الهاء، أو سبق من المهل بفتحها (والارتياد) من راد الكلأ، وارتداه إذا طلبه (آونة وأزمنة) جمعا أوان وزمان للتكرير: أي أوانا بعد أوان وزمانا بعد زمان كقوله تعالى - أولئك عليهم صلوات من ربهم - أي صلاة بعد صلاة كما يجئ، ولا نظر إلى كونهما جمعا قلة إذ لا يناسب المقام أصلا (التنقير) عن الأمر البحث عنه (ومظنة الشئ) مألفه الذي يظن كونه فيه، ومظان العلمين تراكيب البلغاء، والقرآن حجة الله على خلقه ومعجزة لرسوله في إثبات نبوته، فيستحق أن يعتنى بشأنه وتتحمل المشاق في معرفة
مخ ۱۶
لطائفة واستيضاح إعجازه بعد أن يكون ظرف لبرع وما عطف عليه (بخط) مفعول آخذا، يقال: خذ الحطام، وخذ بالحطام، ترك العطف بنى الإخبار يكون تنبيها على أن كل واحد منها أمر مستند بنفسه يستأهل أن يثبت استقلالا (قد رجع) بيان لقوله (طويل المراجعات) أي رجع زمانا طويلا في التعلم (ورجع إليه) في التعليم (ورد) على غيره في المناظرات (ورد عليه، فارسا في علم الإعراب) تخصيص للنحو من بين سائر العلوم: أي يكون مع أخذه منها بخط وافر كاملا في علم الإعراب فإنه العمدة في هذا الباب (مقدما) في معرفة كتاب سيبويه على حملته فإنه أحسن كتاب وضع فيه، قال السيرافي: ما سبقه بمثله من قبله ولا لحقه من بعده (وكان) عطف على قد برع (مع ذلك) أي مع ما ذكر من براعته في العلمين بعد كونه كذا وكذا (مسترسل الطبيعة) أي سلس الطبيعة في الحركات الفكرية نحو دقائق العلوم سهل القبول لها لانقيادها من قولهم بعير رسل بفتح الراء: سهل السير، وناقة رسلة، فيها لين (مشتعل القريحة) في استجلاء الدقائق وانتقادها عند الوصول إليها، وقوله (وقادها) دفع لتوهم الخمود كناب العرفج بعد سرعة الاشتعال، كما أن منقادها دفع لتخييل الضعف من الاسترسال، وقد يقال: حاصله أن له طبيعة كالماء في السلاسة والقبول، وكالنار في النفوذ والتوقد (اللمحة) الإشارة الخفية (والرمز) الإيماء بالشفتين والحاجبين (والكزازة) الانقباض واليبس، يقال رجل كز، وقوم كز بالضم وفرس كزة، إذا كان في عود ها يبس عن الانعطاف (والجاسي) الصلب من جسأت يده من العمل: أي صلبت (الجافي) النابي من الجفاء وهو الغلظة في العشرة وترك الرفق في المعاملة والكلام. أثبت أولا سلاسة الطبيعة وصفاءها وجودة القريحة وذكاءها بحسب الفطرة، ثم نفى أضدادها مبالغة في إثباتها. ثم شرع بقوله (متصرفا) في الصفات العملية المتفرعة على تلك الغرائز الخلقية. ولا شبهة في أن ذلك ترتيب أنيق لا فتور فيه ولا إلباس، فمن لا يعجبه مثل هذا التركيب فليتهم نفسه (والدربة) العادة والتجربة (أساليب الكلام) فنونه (والمرتاض) ما تمت رياضته (والريض) ما كان أهلا لها ولم يرض بعد. وقوله (غير ريض) دفع لتوهم التجوز في المرتاض (بنات الفكر) أما المقدمات وتلقيحها ترتيبها على وجه يؤدى إلى المطلوب. وأما النتائج كما اشتهر في الاستعمال أو يراد استخراج نتيجة من أخرى دلالة على قوة الفطانة وكمال الرياضة، أو يراد التلقيح لأجلها، و (قد علم) بيان وتقرير لقوله مرتاضا بتلقيح بنات الفكر: أي قد علم كيف يرتب أجزاء الكلام، ويؤلف بينها وكيف ينظم أفرادها، ويرصف في نظمها، أي علم كيفية التلقيح في المقدمات وأجزائها (الترصيف) الضم والإحكام (طالما) تأكيد لقوله قد علم، وكلمة " ما " في طالما وقلما إما مصدرية: أي طال اندفاعه، وإما كافة تكفهما عن طلب الفاعل لفظا وتهيئهما لوقوع الفعل بعدها، ويؤيده أنها كتبت موصولة كما في إنما، وجاز الفصل بينها وبين الفعل قال: الكميت:
وقد طال ما يا آل مروان أنتم * (ولقد رأيت) هو إلى آخر الخطبة معطوف على قوله ثم إن أملأ العلوم،
مخ ۱۷
عطفا لقصة على قصة علم التفسير: أي كان طبقات المفسرين في غاية التباين لكثرة نكته وتوقف إدراكها على شرائط قلما تجتمع في واحد، وكنت أنا في أعلى طبقة منها قادرا على كشف سرائر هذا الفن وفوائده، ووجدت الناس محتاجين إلى ذلك غاية الاحتياج، ملحين على في وضع هذا الباب، فتصديت لوضع هذا الكتاب، فأتمه الله على يدي في أدنى مدة، واللام في لقد جواب قسم مقدر دفعا لما عسى يختلج في وهم من له ريبة في صدقه، وتوحيد الضمير في رأيت لأن الراية له خاصة، وجمعه في (إخواننا) لإرادة أنهم أخوة للطائفة العدلية عامة، وبيان الأخوة الذي هو جمع قلة بالأفاضل الذي هو جمع كثرة تنبيه على أنهم وإن قلوا صورة فهم الكثيرون حقيقة أي شرفا وفضيلة، وذكر (الفئة الناجية) إشارة إلى أنهم الذين حكم في الحديث بنجاتهم . وقوله (في الدين) ظرف لإخواننا لتضمنه معنى الموافقة والمعاونة (الجامعين) صفة لأفاضل (وعلم العربية) يتناول أقسامها من اللغة وغيرها (والأصول الدينية) علم الكلام والشرطية أعني (كلما رجعوا) مفعول ثان لرأيت. وفى هذا التعميم مبالغة (بعض الحقائق) أي بعض حقائقها أو بعض ما عندي منها (أفاضوا) أي شرعوا دفعة في استحسان ما أبرزته لهم، وفى التعجب منى (استطيروا) استغزوا كأنهم حملوا على الطيران (شوقا) مفعول له لا تمييز، إذ لا معنى لقولك استطير شوقه (أطراف) المدينة نواحيها وسوادها فاستعيرت لجوانب لكلام: أي يضم أشياء كثيرة من ذلك: أي من جنس ما أبرزت لهم، وقد يقال: أراد ضم ذلك المبرز المتفرق (حتى اجتمعوا) أي أدى تعجبهم وشوقهم إلى الاجتماع (والاقتراح) السؤال من غير روية ويدل على كمال الشغف (والإملاء) متعد، فإما أن يقدر مفعوله:
أي أملى كتابا في الكشف، أو نزل منزلة اللازم: أي أفعل الإملاء في الكشف (حقائق التنزيل) معانيه التي ينساق إليها بلا صرف عن ظاهره، وتأويله أن يصرف إلى خلاف ظاهره لأمارة تدل عليه (وعيون الأقاويل) خيارها عطف على حقائل التنزيل أي الكشف عن الحقائق بإبرازها وعن العيون بتفصيلها وتوجيهها أو عطف على الكشف. والأقاويل جمع أقوال جمع قول، والظرف أعني (في وجوه) متعلق بالأقاويل، وما أحسن هذه العيون في الوجوه (فاستعفيت) أي طلبت الإعفاء، يقال أعفني من الخروج معك، أي دعني منه (استشفعه) واستشفع به: أي سأله أن يكون شفيعا له، وعطف علماء العدل على عظماء الدين من قبيل عطف الصفات، وأراد بعظماء الدين الزهاد والعباد. والمعتزلة سموا أنفسهم أهل العدل لأنهم أوجبوا على الله تعالى ما هو عدل عنهم من ثواب المطيع وعقاب العاصي وتيسير أسباب الطاعات وزواجر المعاصي ورعاية ما هو الأصلح للعباد، ولم يجوزوا شيئا مما يعد ظلما وأهل التوحيد إذ لم يثبتوا له تعالى صفات قديمة زائدة على ذاته لاستلزامه تعدد القدماء المنافى للتوحيد (والذي حداني) مبتدأ خبره: ما أرى عليه، وهو جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، أعني فأبوا فأمليت.
وفائدتها تأكيد حقيقة الاقتراح والاستشفاع وإظهار أن استعفاءه لم يكن عن قصور بل عن استقصاره من يستضئ بنوده؟. حداني ساقني، وعدى بعلى لتضمين معنى الحمل والبعث (على علمي) حال من المفعول وقد سبق لك
مخ ۱۸
جلية حالها، كلمة (ما) موصولة، والجملة الآتية صلتها: أي طلبوا الأمر الذي يجب على صاحبه الإجابة إليه (لأن الخوض) تعليل لتخصيص الوجوب وإشارة إلى أن هذا الأمر وإن كان من فروض الكفايات إلا أن صار عليه كفرض العين إذ كان متعينا له في زمانه (ما أرى) إما موصوفة: أي شئ أرى عليه، و (من رثاثة) بيان لما وصفة أخرى لها وإما موصولة، ومن رثاثة بيان للضمير في عليه، وحال منه للموصولة إذ لا ينتصب حال من خبر المبتدأ، وقيل المعنى: لا يساعد على جعله حالا من ضمير عليه، فإما لأن المعنى: ما أرى الزمان على رثاثة حاله، وهو مردود بأن المبين ليس في حكم الساقط بالمرة، وهذا ممنوع في البدل فكيف في البيان، وإما لأن تقييد الرؤية بحال كونه رثاثة لا فائدة فيه، وجوابه أن ما يرى عليه الزمان يتناول بمفهومه مالا يكون رثاثة، كما أن الرجس يتناول بمفهومه مالا يكون وثنا، فكما أن من الأوثان حال من الرجس مقيدة للعامل يكون الرجس وثنا كذلك من رثاثة حال من الضمير في عليه مقيدة للرؤية بكون المرئي رثاثة وهى البذاذة، يقال ثوب رث: أي خلق (والركاكة) الضعف، قال رحمه الله: الركة والرقة من باب واحد، إلا أن الركة غلبت في ذم المعاني والأقوال، يقال معنى ركيك، وقول ركيك، واستعيرت لذم الأعيان. ورجل ركيك: أي ضعيف لاعتلاله (قوله أدنى عدد هذا العلم) هو اللغة والصرف والنحو مما يتوصل به إلى المعاني الوضعية (فضلا) مصدر يتوسط بين أدنى وأعلى للتنبيه بنفي الأدنى واستبعاده عن الوقوع على نفى الأعلى واستحالة: أي عده محالا عرفا فيقع بعد نفى إما صريح كقولك فلان لا يعطى الدرهم فضلا عن أن يعطى الدينار، فإعطاء الدرهم منفى عنه ومستبعد، فكيف يتصور منه إعطاء الدينار. وإما ضمني كقوله وتقاصر هممهم الخ، يعنى أن هممهم تقاصرت عن بلوغ أدنى عدد هذا العلم وصار منفيا مستبعدا عنهم، فكيف يترقى إلى ما ذكر من الكلام المؤسس، وهو مصدر قولك فضل عن المال كذا: إذا ذهب أكثره وبقى أقله. ولما اشتمل على معنى الذهاب والبقاء ومعنى الكثرة والقلة نظر بعضهم إلى معنى الذهاب والبقاء فقال: تقدير الكلام في المثال الأول فضل عدم إعطاء الدرهم عن الدينار: أي ذهب إعطاء الدينار بالكلية وبقى عدم إعطاء الدرهم، وفى المثال الثاني فضل تقاصر الهمم عن بلوغ أدنى العدد عن الترقي بالمرة:
أي ذهب الترقي بالمسرة وبقى التقاصر، فالباقي هو نفى الأدنى المذكور قبل فضل، والذاهب نفس الأعلى المذكور بعده، وحينئذ يفوت شيئا من أصل الاستعمال: الأول كون الباقي من جنس الذاهب، إذ ليس انتفاء الأدنى من جنس الأعلى الثاني كون الباقي أقل من الذاهب، إذ لا معنى لكون انتفاء الأدنى أقل من نفس الأعلى. فإن قلت: المفهوم من فضلا حينئذ أن ما بعده ذاهب متف بتمامه، وأما أنه أدخل في الانتفاء وأقوى فيه مما نفى قبله كما هو المقصود فلا. قلت: قد يفهم ذلك من كونه أعلى وأدنى، إذ الأعلى أولى بالانتفاء من الأدنى. ونظر آخرون إلى معنى القلة والكثرة فقالوا: التقدير في المثال الأول فضل عدم إعطاء الدرهم عن عدم إعطاء الدينار: أي العدم الأول قليل بالقياس إلى العدم الثاني. فإن الأول عدم ممكن ويستبعد وقوعه. والثاني عدم مستحيل فهو أكثر قوة وأرسخ من الأول. وفى المثال الثاني فضل تقاصر الهمم عن الأدنى عن تقاصرها عن الترقي: أي التقاصر الأول قليل بالقياس إلى الثاني، فإن التقاصر عن الترقي واجبي، وعلى هذا التوجيه يفوت من أصل الاستعمال معنى الذهاب والبقاء، ويلزم أن لا تكون كلمة عن صلة له بحسب معناه المراد، بل بحسب أصله، ويحتاج إلى
مخ ۱۹
تقدير النفي فيما بعد فضلا. ولبعضهم توجيه ثالث مبنى على اعتبار ورود النفي على الأدنى بعد توسط فضلا بينه وبين الأعلى، كأنه قيل: يعطى الدرهم فضلا عن الدينار: أي فضل إعطاء الدرهم عن إعطاء الدينار على معنى:
ذهب إعطاء الدينار وبقى من جنسه بقية هي إعطاء الدرهم. ثم أورد النفي على البقية، وإذا انتفت بقية الشئ كان ما عداها أقدم منها في الانتفاء. ويرجع حاصل المعنى إلى أن إعطاء الدينار انتفى أولا ثم تبعه في الانتفاء إعطاء الدرهم وهكذا بلوغ الهمم إلى أدنى العدد بقية من جنس الترقي، فإذا تقاصرت عن البلوغ كان تقاصرها عن الترقي مقدما عليه. وناصب فضلا محذوف وجوبا لجريه مجرى تتمة الأول بمنزلة لا سيما، ولا محل لذلك المحذوف من الإعراب وإن زعم بعضهم أنه حال، ولا يلتبس عليك أن فاعل ذلك الفعل المحذوف هو الأدنى على الوجه الأخير، ونفيه على الوجهين الأولين (إلى الكلام المؤسس) أي إلى إدراكه بتحصيل عدده، ويريد به كلامه في الكشف عن حقائق التنزيل لأنه بصدد إبداء عذر الاستعفاء عن إملائه، وأيضا قوله (وطائفة من الكلام) يرشد إليه، فمن قال: المراد به القرآن فقدسها (في الفواتح) أي الحروف المقطعة في أوائل السور. وقيل أراد الفاتحة وصيغة الجمع تعظيم لها وهو بعيد جدا، والأولى أن يراد فاتحة الكتاب مع فواتح السور (وكان) أي المملى (حاولت به) قصدت بذلك المبسوط (منارا) علما (ينتحونه) يقصدونه و (يحتذونه) يقتدون به ويقيسون عليه (صمم العزم) أي خلص عن التردد وصار ماضيا لا فتور فيه. يقال صمم السيف: إذا مضى في العظم وقطعه، وصمم فلان على أمره: أي مضى على رأيه فيه (وجدت) جواب لما (في مجتازى) إما مصدر فيتعلق به الجار: أي في اجتيازي بكل بلد، وإما مكان فيتعلق الجار بوجدت (والمسكة) مقدار ما يتمسك به من عقل أو علم أو قوة، والضمير في أهلها للبلد بتأويل البلدة، ولقد تفنن بإراءة معنى واحد في صور مختلفة، فوحد الضمير مذكرا في قوله فيه نظرا إلى لفظ من، وجمعه في (قليل ما هم) نظرا إلى معناه، وأفراد قليل مع أنه خبر لقوله (هم) قدم عليه اهتماما به بناء على أنه صفة لمقدر لفظه مفرد ومعناه جمع مثل فوج أو حزب. وقال (عطشى الأكباد) لأنهم جماعة واستعمل جمع السلامة والتكسير (التطلع) التشوف (والإيناس) الإبصار (العطف) الجانب وهز العطف كناية عن السرور، لأن الفرحان يتحرك جانباه نشاطا، و (من) للتبعيض، ومن (عطفى) مفعول هز: أي حصل في بعض الارتياح لأن تمامه كان باستدعاء الشريف. وقد يقال هز العطف كناية عن إزالة الغفلة، فإن الغافل ينبه بتحريك جانبه والمقام ناب عنه (إذا) للمفاجأة: أي فاجأت زمان أنا ملتبس (بالشعبة) فإذا مفعول به لفاجأت وهو جواب لما (السنية) الرفيعة (والدوحة) الشجرة العظيمة (والأمير) بدل من الشعبة أو بيان، وبه خرج الكلام عن الاستعارة إلى التشبيه كقوله تعالى - من الفجر - (والنكتة) كل نقطة من بياض في سواد أو عكسه
مخ ۲۰
(والشامة) الخال يقال هو النكتة والشامة في قومه: أي العلم المشار إليه (أعطش الناس) قيل حال، وإنما يصح عند من يجعل إضافته لفظية ولم يذهب إليه المصنف، فالأولى أن يكون مفعولا لما دل عليه المفاجأة من معنى وجدت، وهذا جائز عند الكوفية مطلقا. وعند البصرية في مثل هذا المحل لتقدم قوله وجدت (المشاده) المشاغل وقياس واحده مشده بضم الميم وكسر الدال من أشده، كما أن المشاغل جمع مشغل من أشغله، وهو لغة ضعيفة في شغله إلا أن مشدها لم يستعمل أصلا، وإنما المستعمل شده الرجل: أي شغل أو دهش فهو مشدوه، وجاز أن يكون من الثلاثي جمع مشده بفتح الميم والدال: أي مقمن الشده، فإن المشاغل مقامن الحيرة والدهش، كما يقال: الولد مجبنة مبخلة: أي مخلقة ومقمنة لذلك (الفيفاء) الصحراء الملساء والمهمه) المفازة البعيدة والجمع الفيافي والمهامه (وفد) فلان على الأمير: أي ورد عليه رسولا في خطب من تهنئة ونحوها، جمع الضمير في (علينا) تعظيما لتناسب لفظه الوفادة، والقول بأنه للتواضع والإشارة إلى أن وفادته لا تكون على وحدى بل مع إخواني من الأفاضل يدفعه قوله ليتوصل إلى هذا الغرض فإنه منحصر فيه كما مر، والقصد إلى جعل الإخوان شفعاء عنده لا يلأم المقام (فقلت) عطف على جواب لما أعني وجدت (على المستعفى) أراد نفسه والتفت لأن الحيل والعلل يناسبان وصف الاستعفاء لا ذات المتكلم، يقال عيى بالأمر: إذا لم يهتد لوجهه، فمعنى عيت به العلل أنها لم تهتد إليه ليمكن له التمسك بها، وهذا أبلغ من أن يقال عيى بالعلل: أي لم يهتد إليها كأن عدم الاهتداء سرى منه إليها، وقد تجعل الباء للتعدية: أي أعجزته العلل فلم يجد ما يتعلل به وحينئذ تفوت تلك المبالغة، والاستعمال المشهور:
أعني كون الباء صلة للفعل (ورأيتني) معطوف على قلت وبيان لسبب العدول عن طريقة المملى والأخذ في طريقة أخصر منها (أخذت منى السن) أثرت في وأخذت من قواي ونقصت منها (الشن) القربة البالية، وتقعقع الشن:
تصويته ليبسه، أراد استيلاء اليبس على جلده لكبر سنه (ناهزت) شارفت وقاربت، و (العشر) المسماة (بدقاقة الرقاب) ما بين الستين إلى السبعين، وقد حكم سيد البرايا بأنها معترك المنايا (فأخذت) عطف على رأيتني (مع ضمان) حال من أخذت: أي مقارنا لضماني وكفالتي بذلك دفعا لما يتوهم في الاختصار من فوت الفوائد (السرائر) جمع سريرة بمعنى السر (سدد أي وفق للسداد وهو الصواب من لاقول والعمل (ففرغ منه (أي من الكتاب لدلالة السياق عليه بل لكونه مذكورا معنى، لأن قوله طريقة أخصر عبارة عنه، ولم يصرح بإسناده الفراغ إلى نفسه تنبيها على أن الفراغ منه في مثل ذلك الزمان لا يتصور من إنسان، بل هو محض موهبة من عند الله المنان (مدة خلافة أبى بكر رضي الله عنه) سنتان وأربعة أشهر أو ثلاثة أشهر وتسع ليال: أي كان يقدر تمامه في أكثر من مدة خلافة الأربعة، فاتفق في مدة خلافة أقلهم مدة (وما هي) أي الفراغ في تلك المدة القليلة، وتأنيث الضمير باعتبار الخبر
مخ ۲۱
الذي هو (آية) وقوله (من آيات هذا البيت المحرم) ناظر إلى قوله تعالى - فيه آيات بينات - (ما تعبت فيه منه) الضمير الأول لما، والثاني للكتاب، فتجعل من بيانية لا تبعيضية لأنه تعب في مجموعه لا في بعضه فقط. وقيل بالعكس: أي ما تبعت منه في تصنيف الكتاب . وقيل الأول لله تعالى، والثاني لما: أي ما تعبت فيه: أي في ذات الله ومرضاته كقوله تعالى - جاهدوا فينا - وقيل بالعكس، فيكون منه صفة لسببا فلما قدمت صارت حالا:
أي يجعل المتعوب فيه وهو الكتاب سببا من الله تعالى. وقد يقال الأول للحرم، والثاني لما: أي ما تعبت منه في الحرم، والباء في (بيميني) بمعنى في: أي يسعى بين يدي وفى يميني، وهو مقتبس من قوله تعالى - يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم - (ونعم المسؤول) عطف على أسأل الله، فإما أن يجعل أسأل الله إنشاء للسؤال، أو يقدر القول في نعم: أي وأقول نعم والمخصوص بالمدح محذوف: أي نعم المسؤول: أي المدعو هو: أي الله تعالى، أو نعم المطلوب هو: أي الجعل المذكور.
سورة فاتحة الكتاب فاتحة الشئ أوله، فقيل الفاتحة في الأصل مصدر بمعنى الفتح كالكاذبة بمعنى الكذب، ثم أطلقت على أول الشئ تسمية للمفعول بالمصدر، لأن الفتح يتعلق به أولا وبواسطته يتعلق بالمجموع، فهو المفتوح الأول. وقيل الفاتحة صفة، ثم جعلت اسما لأول الشئ إذ به يتعلق الفتح بمجموعه، فهو كالباعث على الفتح، وأدخل التاء علامة للنقل من الوصفية إلى الاسمية كما في النطيحة، وهذا هو الوجه لأن فاعلة في المصادر قليلة، وقس على الفاتحة حال الخاتمة (قوله الكتاب) كالقرآن يطلق على مجموع المنزل المكتوب في المصحف وعلى القدر المشترك بينه وبين أجزائه المخصوصة، ومعنى فاتحة الكتاب أوله، ثم صارت بالغلبة علما لسورة الحمد، وقد تطلق عليها الفاتحة وحدها، فإما أن يكون علما آخر بالغلبة أيضا لكون اللام لازمة، وإما أن يكون اختصارا لفاتحة الكتاب واللام كالخلف عن الإضافة إلى الكتاب مع لمح الوصفية الأصلية. قال صاحب الكشف رحمه الله تعالى: وهذه الإضافة بمعنى من لأن أول الشئ بعضه. ورد عليه بأن البعض قد يطلق على ما هو فرد الشئ كما يقال: زيد بعض الإنسان، وعلى ما هو جزء له كما يقال: اليد بعض زيد. وإضافة الأول إلى الشئ بمعنى من دون الثاني، ومن ثمة اشترط في الإضافة بمعنى من كون المضاف إليه جنسا للمضاف صادقا عليه، وجعل من بيانية كخاتم فضة. فإن قلت: لعله يجعل الكتاب بمعنى القدر المشترك الصادق على سورة الحمد وغيرها: أي فاتحة هي الكتاب قلت: يأباه أن كونها فاتحة وأولا بالقياس إلى مجموع المنزل لا القدر المشترك. فإن قلت: جوز العلامة في سورة لقمان الإضافة بمعنى من التبعيضية وجعلها قسيم الإضافة بمعنى من البيانية حيث قال: معنى إضافة اللهو إلى الحديث التبيين، وهى الإضافة بمعنى من كقولك: باب ساج، والمعنى: من يشترى اللهو من الحديث، واللهو
مخ ۲۲