حصاد فلسفی
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
ژانرونه
41
لأن ما يستحق المعرفة هو ما ليس مكتملا وما يزال مفتوحا على الصدفة غير المتوقعة. وفي هذه الحالة يصعب أن نتصور وجود نموذج لكائنات بشرية ثابتة، وقد أسهم فرويد في هدم هذه الصورة - أعني صورة وجود شيء بشري حقيقي معد مسبقا - عندما بين تأثير الخيال غير الواعي أو اللاشعوري والدور الذي يلعبه في تشكيل الذات الإنسانية، هذا بالإضافة إلى الوعي والتفكير، إلى جانب ردود الأفعال غير المتنبأ بها للاوعي والجوانب الغريزية الغائرة في الكائنات البشرية. الصدفة أو العرضية إذن تلعب دورا هاما في عملية إبداع-الذات، والأفراد المبدعون فقط هم الذين لديهم القدرة والمهارة الكافية للتعرف على - بل وتحديد - العرضيات والإمساك بها وتحويلها إلى وقائع هامة «إذا أمسكنا بالعرضيات الخاصة الحاسمة في ماضينا فسوف نصبح قادرين على صنع شيء ذي شأن لأنفسنا، وإبداع ذوات حاضرة نستطيع أن نحترمها.»
42
إن المصادفات والعرضيات تقتحم حياتنا، وبما أننا لا نستطيع التأثير في مجرى هذه المصادفات فعلينا مواجهتها. وإذا كانت حياتنا في بعض جوانبها محكومة بالصدفة التي لا يحكمها قانون، وفي بعضها الآخر بظروف سياسية وتاريخية مفروضة علينا، فإن «الكثير من الأحداث الهامة في حياتنا تنبع من ردود أفعالنا لمواجهات عرضية مع أناس آخرين ومواقف غير متوقعة. فنحن نحدد أنفسنا في مواجهة التحديات التي وضعتها في طريقنا ظروف بشرية وغير بشرية، أو نحن نفشل في مواجهتها. وهكذا تكون الشخصية الإنسانية شيئا يصنع، عملا فنيا.»
43
ولا مهرب لنا من أن نأخذ في حسابنا المصادفات أو العرضيات والأخطار، بل والفروض التي تظهر في حياتنا على غير توقع، وإذا كنا لا نستطيع أن نتجنب مثل هذه الأمور فإن مهمتنا هي الوعي بها ومواجهتها كما سبق القول.
لكن هل يملك جميع الناس هذا الوعي بعرضيات الحياة؟ حقيقة الأمر أن الأفراد الأقوياء فقط هم القادرون على إدراك مثل هذه العرضيات والإمساك بها لتساعدهم على إبداع ذواتهم، ومن هؤلاء - في رأي رورتي - نيتشه والشعراء النوابغ الذين استطاعوا أن يحولوا حياتهم إلى إبداعات أدبية، وأن يبدعوا استعارات وأوصافا جديدة، ويحولونها من السياق الخاص إلى السياق العام: «إن التقدم الشعري، والفني، والفلسفي، والعلمي أو السياسي ينتج من الصدفة العرضية لهاجس خاص مع حاجة عامة.»
44
وعملية إبداع الذات هي مهمة كل فرد وليست مقصورة فحسب على الشعراء الموهوبين الذين يملكون القدرة على خلق استعارات ومفردات جديدة. وإذا كنا قد أكدنا من قبل أن اللغة متغيرة، وأنها نتاج الزمن والظروف التاريخية، فإنه يترتب على ذلك أن كل تغير تاريخي يصاحبه تحول لغوي، وأن الاكتشافات غير المتوقعة تساعد على إيجاد مفردات جديدة، حيث تصبح المفردات الموجودة بالفعل بالية وغير كافية. كما أن وضع نظريات جديدة يستدعي التغلغل في جوانب غير معروفة للظاهرة موضوع البحث، بحيث تنمو المعرفة من صراع المفردات الجديدة مع القديمة، وتنمو المعرفة وتتطور مع نمو وتطور الجنس البشري.
بهذا المعنى السابق نكون نحن جميعا شعراء في إبداع الذات، ولكن بعضنا فقط هم الشعراء العظام، أي أن كلا منا يبدع ذاته بشكل مختلف. ومعنى هذا أن رأي رورتي في الذات الإنسانية ليس رأيا نخبويا، أي أنه لا يتحدث عن نخبة أو صفوة من البشر لديهم مواهب أو قدرات خاصة لإبداع-الذات، وحديثة عن إبداع مفردات واستعارات جديدة ليس مقصورا على فئة الشعراء فحسب - باعتبارهم الفئة التي تربطها باللغة علاقة خاصة تساعدهم على إبداع مفردات واستعارات جديدة - بل إن كل الكائنات البشرية قادرة على إبداع استعارات جديدة في ردود أفعالهم على عرضيات الحياة ومصادفات التجربة. ولذلك يؤكد رورتي أن ما يفعله الشعراء بكلماتهم، يمكن للآخرين أن يفعلوه بحياتهم، بزواجهم وأطفالهم، بتجارتهم، وحسابات أعمالهم وما يمتلكون في بيوتهم، بالموسيقى التي يسمعونها، والرياضة التي يمارسونها أو يشاهدونها، والأشجار التي يمرون عليها في طريقهم إلى العمل، وأيضا في كل نظرية علمية جديدة ... وهكذا.
ناپیژندل شوی مخ