حصاد فلسفی
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
ژانرونه
ويؤكد رورتي على أن «شمولية اللغة مسألة تتعلق باللغة التي تتحرك في فراغات تسبب فيها فشل كل الفروض التي أخذت بنقط بداية طبيعية للتفكير، أي نقط بداية سابقة على الطريقة التي تتكلم بها ثقافة معينة ومستقلة عنها. ومن أمثال هذه الفروض والاقتراحات المرفوضة : الأفكار الواضحة المتميزة عند ديكارت، المعطيات الحسية عند التجريبيين، ومقولات الفهم الخالص عند كانط، وبناءات الوعي السابقة للغة وما أشبه ذلك.»
20
فالفلسفة التحليلية - إذن - تمثل تحولا لغويا من جهة أنها ساعدت على طرح أسئلة كانطية بدون أن تتكلم بلغة كانط عن التجربة ولا عن الوعي، أي أن فلسفة التحليل اللغوي قد استطاعت أن تتجاوز الكانطية وتتبنى توجها طبيعيا وسلوكيا في اللغة. وهذا الاتجاه أو التوجه قد أدى بها إلى نفس النتيجة التي انتهى إليها رد الفعل الذي تمثل في فلسفة نيتشه وهيدجر. وهكذا تنتهي الفلسفة إلى نفس النتيجة التي انتهى إليها تراث نيتشه وهيدجر ودريدا الذي يبدأ بنقد النزعة الأفلاطونية، وينتهي بنقد الفلسفة ذاتها. بمعنى آخر، إن حصيلة الفلسفة التحليلية التي تخطت النزعة الوضعية المنطقية تشبه الحصيلة التي انتهى إليها تراث نيتشه وهيدجر ودريدا، مما يعني أن كلا التراثين «التحليلي والأوروبي» يوجدان الآن في مرحلة الشك في وضعهما، وكلاهما يعيش حائرا بين ماض مرفوض، ومستقبل غامض لفكر ما بعد الفلسفة.
هكذا يكون رورتي قد وضعنا في مأزق شديد بعد أن رسم صورة قاتمة للفلسفة في نهايات القرن العشرين، فبعد أن بخس المشكلات الفلسفية قدرها، أصبح هناك نوع من الفراغ في المشهد الثقافي الذي اختفت منه الفلسفة كنظام معرفي، وانطفأت وخبت شعلتها بالطريقة التي خبا بها اللاهوت. وإذا كان هذا هو تصور رورتي لوضع الفلسفة في الثقافة، فما هو تصوره لثقافة ما بعد الفلسفة؟ هل ينتج عن هذا ثقافة لا عقلانية بعد أن فقدت الفلسفة زعمها التقليدي بأنها علمية؟ هل ستتحول الفلسفة إلى مجرد تاريخ يقوم المشتغلون بالفلسفة بتدريسه في قاعات الدرس في أعداد قليلة من أقسام الفلسفة؟ أم ستتحول الفلسفة إلى نوع من فلسفة اللغة، خاصة وأن البراجماتية التي ينتمي إليها رورتي تؤمن بأن المشكلات الفلسفية نشأت في الأساس من فكرة كلية وجود اللغة التي أدت إلى عدم قدرتنا على معرفة أن هذه المشكلات الفلسفية نشأت على وجه التحديد من أن اللغة غير ملائمة للوقائع؟ وإذا كان هذا صحيحا فهل قامت البراجماتية على سوء فهم للعلاقة بين اللغة والعالم؟ (2) ثقافة ما بعد الفلسفة (2-1) دور الفلسفة في الفكر المعاصر
أراد رورتي من نقده للفلسفة التقليدية أن يتخلص من الحصار الديكارتي الذي طوق تاريخ الفلسفة، والذي يتلخص في عبارة إما/أو التي عبرت عن الثنائية التي اتسم بها العصر الديكارتي والعصور التالية له، ووضعت الإنسان أمام خيارين لا بديل لهما، إما أن يسلم بوجود أسس ثابتة، أو أن يواجه بالفوضى العقلية. لذلك كان هدف رورتي من نقده للتراث الفلسفي هو أن يحرره من هذه الثنائية، بحيث نحتاج - لكي نفهم الأمور التي أراد لنا ديكارت أن نفهمها - نحتاج أن «نتحول إلى الخارج بدلا من الداخل، وأن نتجه إلى السياق الاجتماعي للتبرير (
justification ) العقلي أكثر مما نتجه إلى تمثلات داخلية، وتشجع على اتخاذ هذا الموقف تطورات فلسفية ظهرت في العقود الحديثة للقرن العشرين، ومن أهمها المحاولات التي ظهرت عند فيتجنشتين في بحوثه المنطقية، وعند كون في بنية الثورات العلمية»،
21
فإذا ما أخذنا في الاعتبار رأي هذا الأخير - أعني توماس كون - في أن كل ثورة علمية لا بد أن يصاحبها نموذج إرشادي مغاير للمعرفة العلمية السابقة على هذه الثورة، فإنه يترتب على هذا - وطبقا لما يعنيه رورتي - أنه ليس هناك نظام معرفي تأسيسي واحد تتمركز حوله الثقافة في أي مجتمع ويهيمن على كل تجلياتها، لا الفلسفة ولا التاريخ ولا العلم ولا أي نظام آخر، فليس هناك جزء من الثقافة أكثر تميزا من الأجزاء الأخرى، بما يعني أن كل فترة زمنية لها نموذج إرشادي مخالف للفترة السابقة عليها، وأنه ليست هناك أسس أبدية وثابتة تفرضها الفلسفة على الثقافة. وهذا النموذج الإرشادي المتغير يفرضه السياق الاجتماعي والاعتقادات والممارسات الاجتماعية واللغوية في كل فترة تاريخية.
قد يفهم مما سبق أنه من الممكن أن تتشكل الثقافة في أي مجتمع معاصر بدون فلسفة. وإذا كان يصعب علينا أن نتخيل المشهد الثقافي بدون فلسفة، فإنه من الصعب أيضا أن نتخيل ما يمكن أن تكون عليه الفلسفة بدون الإبستمولوجيا التي وجه رورتي لها سهام النقد، كما يصعب أيضا أن نصف نشاطا ما بأنه فلسفي ما لم يتضمن طريقة أو منهجا للمعرفة. إذن فما هو تصور رورتي للدور الذي يمكن أن تلعبه الفلسفة في الثقافة المعاصرة؟
ربما كانت نقطة البداية عنده هي التخلي عن الفكرة الأساسية في الفلسفة التقليدية، وهي أن للإنسان جوهرا تنعكس على مرآته بدقة كل معرفتنا عن العالم الخارجي: «علينا أن نخلص خطابنا تماما من كل الاستعارات البصرية، وبخاصة الاستعارات التي تعكس شيئا داخليا أو خارجيا»،
ناپیژندل شوی مخ