حصاد فلسفی
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
ژانرونه
واستمر الحال كذلك مع أعلام الفكر الفلسفي الحديث بدءا من ديكارت (1595-1650م) الذي أطلق عبارته الشهيرة «إن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس»، وأقام مذهبه العقلي على أساس أن الحقيقة قائمة في العقل ولا وجود لها خارج الفكر، وأن الوضوح والتميز هما معيار هذا الفكر، إلى جون لوك (1632-1704م) - وهو الفيلسوف التجريبي - الذي أقر أيضا بطبيعة ثابتة للعقل، وجعل منه صفحاء بيضاء تنقش التجربة عليها حروفها الأولى، ثم جاء فيكو (1668-1744م)، وعارض بفلسفته التاريخية النزعة العقلية الديكارتية، وتحولت الذات العاقلة إلى ذات تاريخية، أي إلى ذات عاقلة ومعقولة في آن واحد؛ فالعقل الإنساني هو صانع التاريخ، وهو موضوعه أيضا. بذلك يكون فيكو هو أول من قدم نظرية تاريخية عن حقيقة التغيير من خلال تفسيره للتاريخ بوصفه عملية عقلية منظمة خلاقة. فالتاريخ الذي يتألف من أحداث ووقائع ومؤسسات اجتماعية تعبر عن أحوال العقل، قد جعل هذا العقل نفسه موضوعا للمعرفة. وإذا كان بعض الباحثين ينسبون إلى هيجل أنه أول من أدخل العقل في التاريخ، فنحن نؤكد في هذا المجال أن فيكو سبق هيجل، وكان بحق أول من أطلق العقل في التاريخ؛ لأن التطور التاريخي الاجتماعي للعقل عند فيكو مختلف كل الاختلاف عن تصور هيجل الذي لا شك أنه تصور ميتافيزيقي متعال على التاريخ، ويكفي أن نقول إن الدور الذي يقوم به العقل مختلف تمام الاختلاف عند فيكو عنه عند هيجل؛ فالعقل المطلق عند هذا الأخير يتطور - كما هو معروف - تطورا ذاتيا نحو الوعي بذاته، أما عند فيكو فهو لا يتطور إلا داخل ظروف تاريخية اجتماعية محددة يكون مشروطا بها؛ لأنه لم يتصور العقل كماهية مستقلة، ولم ينسب له أي قدرة ذاتية على التطور، وبذلك يكون قد قدم نقدا للعقل التاريخي يذكرنا من بعض الوجوه بنقد العقل الخالص الذي قدمه كانط فيما بعد،
2
وإن كان من الضروري القول بأن هذا النقد الأخير معرفي محض وغير تاريخي على الإطلاق.
لقد قام كانط (1724-1804م) بتحليل العقل نفسه، ورسم صورة جديدة لطبيعة العقل الذي يقوم بنقد ذاته بذاته، ووضع «الشروط القبلية» التي تجعل التجربة ممكنة ؛ فالعقل - كما يقول كانط نفسه في المدخل إلى نقد العقل الخالص - هو «الملكة التي تمدنا بمبادئ المعرفة ... وهذا العقل لن تكون وظيفته هي التوسع في معرفتنا، بل سيقتصر على تطهير عقلنا وتخليصه من الأخطاء.»
3
ولهذا كانت فلسفة كانط عقلية نقدية شارطة (ترنسندنتالية)؛ لأنها لا تهدف إلى التوسع في المعرفة، بقدر ما تهدف إلى تصحيحها، واختيار قيمة المعارف القبلية. إن العقل عنده لا يبحث في طبيعة الأشياء الخارجية، وإنما هو الذي يشرع لها، ولم يقدم كانط كما أعلن بنفسه «إلا نقد ملكة العقل الخالص نفسها، ومتى أصبح هذا النقد هو الأساس صار لدينا المحك أو المعيار الأكيد الذي نقدر به القيمة الفلسفية للمؤلفات القديمة والحديثة.»
4
والمنهج الذي يستخدمه العقل في نقده لنفسه هو المنهج الشارطي (الترانسندنتالي) الذي يضع الشروط التي تجعل التجربة ممكنة، ليؤدي نقد العقل في نهاية الأمر إلى المعرفة العلمية الموثوق بها.
والحقيقة أن التفكير الترانسندنتالي عند كانط في شروط وإمكان المعرفة لا يعطي للفلسفة دورا واحدا، بل «دورين متميزين كما قال ريتشارد رورتي: الأول باعتبارها محكمة العقل؛ أي الذات العارفة التي من خلالها نفهم العالم ونفهم أنفسنا بشكل عقلاني. وبناء على هذا الدور الأول يتحدد دورها الثاني، وهو أنها لا تستطيع أن تحكم على نتائج العلوم الأخرى فقط، بل تقوم أيضا بتنظيمها وتحديد المكان الصحيح لكل منها، ومجال مصداقيتها ومنهجها السليم.»
5
ناپیژندل شوی مخ