حصاد فلسفی
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
ژانرونه
nothingness ، كراهية الحياة، التمرد على الفروض الأساسية للحياة، ولكنها تبقى إرادة! والإنسان يفضل إرادة اللاشيء على ألا تكون هناك إرادة.»
13
يتضح من تحليل النص أن المعاناة التي يعانيها إنسان نيتشه تختلف - بغير شك - عن معاناة الإنسان المسيحي، وإن كان لا يفهم من الأولى هل يمارس الإنسان المعاناة من أجل ذاتها، أم من أجل البحث عن المعنى؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هو المعنى الذي يقصده إنسان نيتشه؟ لكن المعاناة في الحالة الثانية «المسيحية» هي كما سبق القول نوع من العقاب والخنوع للتطهر من الذنب الذي ألقت به الديانة المسيحية على عاتق البشر؛ ولذلك يعتقد نيتشه أن البحث في أصول الأخلاق وتسلسلها هو المسئول عن موت المسيحية كعقيدة، وهو أيضا المسئول عن ضعف وهلاك الأخلاق المرتبطة بها. يرفض نيتشه إذن نظرية الحقيقة التي تقر بأن الحقيقة ثابتة، وهي النظرية التي تأسس عليها التراث الفلسفي، والتي استندت إلى نموذج الزهد العازف عن الحياة، ويرفض أيضا الإرادة المفارقة والمنحرفة - في رأيه - لهذا النموذج، فما هي إذن الحقيقة التي ينشدها نيتشه؟ وما هي الإرادة المصاحبة لها؟
تشكل فكرة الحقيقة محورا أساسيا في فلسفة نيتشه ، ولكننا لا نستطيع أن نخوض في هذه المشكلة الكبرى التي تضمنت موقفه من نظريات الحقيقة. فقد تناولت دراسات عديدة مشكلة الحقيقة عند نيتشه وعرضت تفسيرات كثيرة لها منها ما اعتبره بعض الباحثين تفسيرات تقليدية للمشكلة كتلك التي قدمها كل من هيدجر وكاوفمان، ومنها ما أطلق عليه تفسيرات غير تقليدية كما عند دي مان
De man ، والدراسات التي وردت في كتاب«نيتشه الجديد»
New Nietzsche ، وهناك بعض الدراسات التي تؤكد تطور فكرة نيتشه نفسه من موقفه من الحقيقة خاصة في أعماله المتأخرة التي ربط فيها بين الحقيقة والعلم، وعلاقة الحقيقة بإرادة القوة وإرادة الحقيقة. وللأسباب السابقة لن نتعرض لجوهر هذه المشكلة التي من الممكن أن تجرف هذا البحث عن الإطار المرسوم له، ولكننا سنشير فقط إلى هجوم نيتشه الشديد على المثل الأعلى للزهد لاعتقاده أن الإيمان بالحقيقة هو التعبير الأخير عن هذا المثل الأعلى.
ربط نيتشه مبدأ الزهد بالفلسفة، فإذا كانت الروح الفلسفية قد نشأت لظروف طارئة من المثل الأعلى للزهد، فهو يحاول من جانبه تحرير الفيلسوف من الزهد وتحرير الحقيقة من العبودية. فقد درج الفلاسفة على النظر إلى الحقيقة على أنها ثابتة، وبذلك تم عزلها عن الحياة، في حين يرى نيتشه أن الحقيقة متغيرة، وتخضع لتقلبات الحياة وتغيراتها. ولذلك يطرح سؤاله «الجينالوجي»: ماذا تريد إرادة الفيلسوف للحقيقة؟ لتأتي الإجابة بأنها إرادة محافظة، كل ما تنشده هو المحافظة على الذات. فالفيلسوف يفضل التحديد على عدم التحديد، الثابت على المتغير، الواحد على المتعدد، لقد كان الدافع الأخلاقي في تاريخ الفلسفة هو دافع الإبقاء على نموذج محدد من الحياة.
ويرفض نيتشه - بطبيعة الحال - إرادة الفيلسوف للحقيقة بالمعنى السابق شرحه؛ لأنه يرى أن الفيلسوف ممثل لإرادة القوة ، ولاقتناعه أيضا بأنه لا يمكن لأي شيء أن ينشأ مستقلا عما حوله، ولا يمكن له أن يحيا بعيدا عن علاقته بالأشياء الأخرى، فهذه العلاقة هي التي تشكل ظروف وجوده واستمراره لقد نشأت كل القيم والأفكار والمفاهيم في الزمان وفي صور متعددة؛ ولذلك كانت مهمة نيتشه في بحثه عن أنساب الأخلاق هي أن يبرز تلك الظروف العينية والتاريخية إلى النور. كذلك انحصرت مهمته في تقديم تحليل أو تشخيص تاريخي للحاضر، وتقويضه ليفتح إمكانيات تدعيم أو تعزيز الحياة، فالتقييم الأخلاقي إذن هو أساس البحث عن الحقيقة. وتصبح الحقيقة في رأي نيتشه «قيمة تستحق الاحترام فقط عندما ترتبط بالتقييم»، أي عندما ترتبط بفعل الإرادة. فالحقائق ليست في عالم المثل الأفلاطوني ولا في طبيعة الأشياء، وإنما في الإرادة التي تعبر عن نفسها في هذا العالم، عالمنا الأرضي، وبهذا المعنى فقط تكون «جينالوجيا الأخلاق» عند نيتشه هي المنهج الذي بفضله نكتشف أصل الأفكار والمثل في فعل الإرادة. وتركز الجينالوجيا على نوعية خاصة للإرادة، فعلى سبيل المثال يعيد نيتشه تفسير عبارة «الحقيقة قيمة» أو «الحقيقة تستحق التبجيل» في عبارة أكثر دقة «أنا أريد الحقيقة بدلا من الخطأ. الجينالوجيا إذن دراسة للطريقة التي تريدها الإرادة، هل هي إرادة ضعيفة أم قوية؟ هل هي إرادة نبيلة أم تابعة؟ هل هي فعل مبدع أم رد فعل انتقامي؟ هل هي إثبات للحياة أم إنكار للإرادة؟»
14
لذلك كله جاء بحث نيتشه في أنساب الأخلاق على مرحلتين، في المرحلة الأولى بحث الظروف التي نشأت في ظلها أحكام القيمة، وفي المرحلة الثانية طرح التساؤل عن قيمة أحكام القيمة. بعبارة أخرى نستطيع أن نقول إن المرحلة الأولى كانت بمثابة المرحلة التمهيدية للمرحلة الأخرى النقدية؛ ولذلك كانت الوظيفة الأساسية لجينالوجيا نيتشه هي وظيفة نقدية. «إن البحث في أصول تقييماتنا وقوائم الخير ليس متطابقا على الإطلاق مع النقد الموجه لها على الرغم من أن الإحساس بنوع من الأصل المخجل يجلب معه شعورا بتناقص قيمة الشيء الذي نشأ بهذه الطريقة، كما يمهد السبيل لموقف نقدي منه. ما هي على الحقيقة قيمة تقييماتنا وقوائمنا الأخلاقية؟ ما هي محصلة سطوتها؟ وبالنسبة لأي شيء؟ الإجابة من أجل الحياة»، لكن ما الذي يعنيه نيتشه بالحياة التي طرح من أجلها كل تلك الأسئلة؟ يتساءل هو نفسه، ثم يجيب: «لكن ما هي هذه الحياة؟ تشتد الحاجة إلى صيغة جديدة أكثر تحديدا لمفهوم الحياة، إن مفهومي عنها هو: الحياة هي إرادة القوة.»
ناپیژندل شوی مخ