تلك كانت وطنية التي شبت في بيت قابلة القرية، وقد كانت القابلة ترى في عطفها على وطنية أمرا يزيد من عطف القرية عليها، ويجعل لها العذر إذا هي طلبت الجدوى أن تطالب بحق اللقيطة التي تقوم على تربيتها، وكانت لا تعدم بين الأثرياء من يمد لها يدا سخية، وهكذا أصبحت وطنية - وهي النقمة على نفسها - نعمة على القابلة التي تقوم بشأنها.
ولكن الطبيعة أبت أن تبقي لوطنية هذا الملجأ الذي كانت تتوارى فيه من خزيها وغربتها؛ فقد ماتت القابلة ولم تترك وراءها شيئا، فقد شاءت - غفر الله لها - أن تحج، فأخذت كل مال مدخر لديها، وباعت كل ما عندها من حلي، وسافرت للحج وأعجبها الحجاز فماتت هناك، وخلفت بالقرية بيتا متداعيا ليس فيه إلا وطنية.
ولم تكن وطنية قد أخذت عن القابلة صناعتها؛ فإنها حين بلغت السن التي يمكنها فيها أن تتعلم شيئا كانت القابلة قد بلغت السن التي لا يمكنها فيها أن تعلم شيئا، فقد كانت - رحمها الله - في سنينها الأخيرة راعشة اليدين بطيئة الحركة، حتى لقد انفضت عنها المشرفات على الولادة، ولم تبق لها إلا العوائد التي كانت تستجديها من الأغنياء.
وهكذا أصبحت وطنية وحيدة لا معين لها ولا عائل، إلا يد تمتد وفم يستجدي.
وعلى هذا الطريق من الاستجداء اتصلت أسباب وطنية بكمال.
فكمال لا يجد حانيا عليه إلا وطنية، ووطنية لم تجد رجلا إلا كمالا، فاتصلت الحاجات وتعارف الشريدان، وأصبحت مراسم الاحتفال عند كمال أن يقضي لدى وطنية ليلة يصيب فيها طعاما يشتريه هو وتطبخه هي، ثم يبيت عندها ليلة ويخرج قبل الفجر، فلا يحس أحد الطبخ أو المبيت.
وهكذا خرج كمال من بيت النمرود وقد حزم أمره على أن يحتفل الليلة بمستقبله الباسم.
كان الوقت صيفا والفلاحون في الصيف يسمرون إلى عميق الليل، فخرج كمال قاصدا إلى منزل عبد العزيز الجزار فوجده يدخل منزله بعد أن قضى سهرته مع إخوانه، فاشترى منه رطلين من لحم الذبيحة التي ذبحها في نهاره هذا، وكان عبد العزيز قد تعود أن يبيعه رطلا بين حين وآخر فلم يدهش كثيرا لزيادة الكمية، ولم يدهش مطلقا أنه جاء للشراء في هذا الوقت المتأخر من الليل، فقد تعود أن يبيعه - كلما باعه - في مثل هذا الموعد، ووضع كمال اللحم في جيبه، وذهب إلى جنينة العمدة، فوجد عبد الله حارس الجنينة مشعلا نارا يصنع عليها قهوة، فاشترى منه بطاطس وطماطم وكل ما لا بد من شرائه للاحتفال، وقصد بحمله تحت ستار الليل إلى بيت القابلة سابقا وبيت وطنية حاليا، وطرق الباب. - من؟ - افتحي يا بنت الكلب.
وفتحت وطنية الباب هنيهة تسرب فيها كمال إلى داخل المنزل، ثم أقفلت الباب وراحت تنظر إلى ما يحمله كمال. - خير، أين كنت طول هذه المدة؟ - وما شأنك أنت؟ انظري أحضرت لك اليوم رطلين لحمة من أحسن صنف. - رطلين يا ابن الكلب؟ لا بد أنك قتلت قتيلا! - لا، لم أقتل بعد. - وهل ستقتل؟ - والله، الله أعلم. - ماذا تعني؟ - ما لك أنت بما أعني وما لا أعني؟ هيا اطبخي لنا هذا الطعام فإني أريدها ليلة نذكرها طول العمر. - ولماذا نذكرها؟ -؛ لأننا غدا سنصبح أغنياء. - أغنياء! من؟ أنت؟ - نعم أنا. - أنت يا ابن الضائعة؟ - اخرسي يا بنت. - أنت ... أغنياء ... ولماذا؟ وهل عمي الغنى حتى يجيئك أنت؟ ألم يعد يجد أحدا إلا أنت؟ - وما لي أنا يا بنت؟ والله إني مجهول في بلد الكلاب هذه، ولكن لا بأس غدا تعرفني البلدة وتعرف قيمتي. - وما قيمتك؟ أنا والله أعرف قيمتك كل المعرفة، ضائع ابن ضائع، لا خير فيك ولا منك. - غدا حين ترين المال في يدي تعرفين قيمتي. - والله يا ابن الملاعين لو جاء المال إلى يدك ما نظرت إلي ولا عرفتني. - لماذا يا وطنية؟ - يا ابني أنا بنت حرام، أتظن كلامك ينطلي علي؟!
أنا أعلم أني لست جميلة، وأنك لا تأتيني إلا لأنك لا تجد غيري. - لا والله يا وطنية، الله أعلم. - فلماذا لا تتزوجني؟ - ولم لا ؟ نتزوج إن شاء الله. - يا أخي هيه ... النهاية.
ناپیژندل شوی مخ