وقد وجد كمال أن ثمة فسحة من الوقت قبل أن تجب صلاة الظهر، فهو إذن يستطيع أن يعرض لقوم آخرين، إن لم يصب منهم مالا فهو على الأقل يحتسبها عليهم مرة لم يعطوه فيها، فيضطروا إلى إعطائه في المرة التالية.
وهكذا أخذ كمال يمر على الناس فيجد النفور والازدراء أغلب الأحيان، أو يجد الإعطاء الشحيح بعض الحين، أو لعله يجد - ولكن نادرا ما يجد - سماحة في البذل، وكرما في اللقاء، ومهما يكن اللقاء وعلى أي نوع له، فإن كمالا ينصرف ونظره إلى السماء داعيا الله، نعم، الله الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر والبغي ويعظنا لعلنا نتقي. يجرؤ كمال أن يتجه إلى هذا الرحاب ليسأله «مسدس»، أداة القتل والعدوان ووسيلة المنكر والبغي، ولكن من للشرير غير الله؟ سبحانه متجه القلوب جميعا، حتى كمال.
كل أمله أن يجد هذا المسدس أو يجد ثمنه، فإن لم يتيسر فلتكن بندقية أو مقروطة، والمقروطة بندقية جار عليها الزمن فقطعت مقدمتها فلا هي بندقية ولا هي مسدس، ولكنها عند القتل تؤدي الغرض كما يؤديان، ثم هي تمتاز عن البندقية في أنها تختفي في الثياب، فلا يراها أحد، وعن المسدس في أنها تحكم التصويب وتبلغ الهدف في وثوق، وصاحب المقروطة فخور بها أشد الفخر، يدعي - لشعوره بنقصها - أنه قطعها خصيصا حتى يبتعد مرماها، مخالفا في ذلك كل ما يقول به هواة السلاح وخبراؤه، لا بأس بها أيضا لكمال، ولكن أين هي؟
وفي «أين هي؟» هذه مشى كمال يفكر، ويمني نفسه الأمنيات ويوسع للأحلام آفاقها، ويمر بالفقير المعدم فينظر إليه نظرة الأخ في الشقاء، ويعظم في نفسه إذا ما عثر على المقروطة وتحققت الآمال أن يجعل لهذا الفقير نصيبا من بعض ماله، ثم هو يرجع إلى نفسه يسائلها إن كانت ستسمح يومذاك، فإذا نفسه تجيبه في سرعة متوثبة أنها ستسمح، فيعود إليها يسائلها: من أين لها هذا الخير الذي تصطنعه؟ فلا تعجز نفسه عن الجواب، فما هو الخير الذي يدفعها إلى البذل، إنما هي الحاجة، حاجة؟ أأكون يومئذ في حاجة؟ نعم حاجة إلى الناس وليس إلى المال، إلى الناس! إلى الكثرة الكاثرة من الناس، فإذا سأل نفسه عن نفعها من الناس، وماذا يفيد هو من هؤلاء الذين تريد نفسه أن يضمهم إليه، ويبسط عليهم فضل عطفه وسابغ رحمته؟ حينئذ تضحك منه نفسه الضحكة الصفراء التي عرفها لها منذ امتزجا فاتفقا، ولا تسكت نفس كمال عن الجواب: ألا تعرف ماذا تريد من الناس أيها الغبي؟ ألم تر منصور الدفراوي كيف ينظر إليه الناس نظرة احترام وتوقير وهو القاتل السفاك؟ ألا ترى أنهم يمتدحونه ويصفونه بالرجولة والكرم؟! - وهبي ذلك صحيحا، ما شأني أنا بمنصور أو مهزوم فيما نحن فيه؟! - أيها الغبي ألا تعرف أن الناس هم الذين يجعلون المجرم محسنا، والقاتل كريما، وما ذاك إلا لأنه يبذل لهم فنجان قهوة أو لفة جوزة، أو كرسي دخان، فإذا ذكرهم واحد منهم أن هذا الذي يمدحونه قاتل وإن كان كريما، سارع أكثر الجالسين ينهون ذلك المتحدث قائلين له: ما لنا وما له إذا كان قاتلا أو غير قاتل؟ المهم أنه كريم رحب اللقاء، مفتوح البيت ... ألا ترى أن له بيتا والقرية جميعها تعرف عنه أنه قاتل، ولكن واحدا منها لا يذكر عنه شيئا؟ وكل من في قريتنا هذه أو فيما جاورها إذا دعي للشهادة في حادثة قتل ارتكبها منصور ذكر في جرأة وثبات أن منصورا كان يتناول العشاء عنده، وأنه سهر معهم ليلته حتى طلوع الفجر يسمعون القرآن ويتبادلون الحديث.
وحينئذ ينتهز كمال الفرصة ليضحك من نفسه، فيطلقها ضحكة معربدة: أيتها النفس الغريرة أمني تسخرين؟ ألا تنظرين إلى قولك هذا كم هو تافه لا يسنده منطق؟ أظننت الشهادة التي يؤديها الشهود في صالح منصور، مبعثها حب هؤلاء الناس لمنصور؟ - أعرف أيها المتذاكي العبيط، إنه الخوف. - نعم هو الخوف، ولا شيء غير الخوف. - أعرف ذلك وما هو عني ببعيد، ولكن منصورا يتيح لهؤلاء الشهود أن يتخذوا لخوفهم ستارا من الرجولة، هو الخوف ما يرسلهم يشهدون في صالح منصور، ولكنهم يقنعون أنفسهم أنها الصداقة التي تربطهم بمنصور تحتم عليهم أن ينجوه عند الشدة، ويساندوه عند الحاجة، فهم يشهدون الزور، ولكنهم يرضون الصداقة، وهم تصطك أسنانهم خوفا منه ولكنهم يقولون: إنها تصطك خوفا عليه. - وما يهمني أن يقنعوا أنفسهم أو لا يقنعوها، ما داموا سيؤدون ما أريد لهم أن يؤدوه. - هناك فرق أيها الساذج لو أرضيتهم، أو أرضيت غالبيتهم أصبح لك من بينهم عيون على أنفسهم، وأنت حينئذ تستطيع أن تتشدق في يسر، إنك تسرق ولكن المال مآله إلى الفقراء وليس إليك. - على أية حال أيتها النفس لا بأس عندي أن أذكر هؤلاء القوم حين يفتحها الكريم ونحصل على ...
وحينئذ وجد كمال نفسه وجها لوجه أمام الحاج إبراهيم الحسيني شيخ البلدة، فما أسرع ما نفض كمال نفسه من حديث نفسه وفرغ إلى الحاج بكله: صباح الخير يا عم الحاج إبراهيم. - صباح الخير يا ولد يا كمال. - إلى أين إن شاء الله؟ - وما شأنك أنت؟ - إن كان الطريق طويلا أقطعه معك بلساني فأسليك ونتحدث حتى تصل. - يا حول الله يا ابني، على كل حال قضا أخف من قضا، أنا ذاهب إلى دكان الحاج علي أسمع الراديو، وكان الولد أحمد أبو خليل يريد أن يصحبني إلى هناك ولكني هربت منه، وها أنت ذا تحل محله، قضا أخف من قضا. - لك حق يا حاج إبراهيم، ربنا رحمك من ثقل أحمد، ثقيل يا حاج إبراهيم، ثقيل. - ثقلا لا يوصف يا كمال يا ابني، والعجيبة أنه يقول النكات ويضحك منها، ويعتقد أن خفة ظله لم ترد على بني آدم، وأنا رجل كبير لم أعد أحتمل، مرارتي يا بني لم تعد تحتمل. - ألم يبع لك الفدان يا عم الحاج؟ - أبدا مصمم على ألا يبيع هذا الفدان، والفدان يا كمال واقف في وسط أرضي كالعقلة في الزور. - وكم عرضت عليه؟ - ثمانمائة جنيه. - وكم يطلب؟ - ألفا. - له الحق. - أما إنك بارد يا ولد يا كمال، الفدان في أرضي إن لم أشتره أنا فلن يشتريه أحد، وأنا مع هذا لا أظلمه وإنما أدفع له ثمانمائة جنيه، بينما لا يساوي الفدان أكثر من سبعمائة، فيستغل فرصة رغبتي فيه ويطلب ألفا، ألفا مرة واحدة، وتقول لي أنت له حق، أما أنك بارد مثله. - يا عم الحاج أنت لم تعرف قصدي أنا أقصد أنه محق في أن يسوق الدلال ما دمت تعرض وتساوم. - وماذا أعمل؟ - مر، أنت شيخ البلد، أنت والعمدة على درجة واحدة، أرسل فيه بلاغا إلى المركز، وحين يجره العسكري يترك أربعمائة بدلا من مائتين. - أما إنك شيطان يا ولد يا كمال أهذا معقول؟ لا حد الله بيني وبين الفدان ...
وينقطع الحديث عند هذا الحد فقد وصل المتحادثان إلى المقصد.
وقد كان دكان الحاج علي أو الحاجعلي - كما ينادونه - منتدى الصفوة المختارة من القرية، يتحلقون فيه حول الراديو ويشاركون ساسة العالم وساسة مصر في تصريف الأمور، وإن لم تكن هذه المشاركة تقف عند منتداهم هذا، إلا أنها تريح أعصابهم وتهدأ لهم خواطرهم، وتجعلهم يعتقدون أنهم أهل تصرف وقوام أمور.
بلغ الحاج إبراهيم وكمال المنتدى، وكان الجالسون هم الحاج علي الطحان، والشيخ رضوان العكلي المعلم الإلزامي وخطيب الجمعة، والشيخ عبد الودود مأذون البلدة الذي يملك فيها عشرة أفدنة كاملة في طريقها دائما للزيادة، وقام الجالسون يحيون الحاج إبراهيم، ولكن الشيخ عبد الودود لم يقبل أن يسير الحاج إبراهيم في صحبة كمال فهو يقول: والله طيب يا شيخ البلد، ألم تجد غير كمال ليسايرك؟
وغضب كمال لهذا التجريح من رجل لم يأخذ منه في حياته مليما، ولا ينتظر أن يصيب منه في حياته مليما، غضب كمال وكان غضبه في محله؛ فهو لا يغضب من أحد إلا إذا كان من غير المحسنين عليه، وممن لا ينتظر أن يحسنوا إليه، وقد كان الشيخ عبد الودود من هؤلاء الذين لم تكن بينهم وبين كمال معاملة، قال كمال: وما له كمال يا عم الشيخ عبد الودود؟! إن كنت لا ترحم اترك رحمة ربنا تنزل. - ألا تعرف ما له كمال؟ شخص ضائع بلا صنعة! - سامحك الله يا شيخ عبد الودود. - لا شأن لك بالله. - ولماذا؟ - لأن الله يحب العاملين ولا يحب المتسكعين الخاملين.
ناپیژندل شوی مخ