وانبثقت فرحة غامرة في صدر أم الحسن وهي تتحسس جبهة عزيزة فتجدها وكأن حرارتها قد أصبحت طبيعية، وتجدها نائمة لا يكاد يفرقها عن الأصحاء إلا ذلك الشحوب الشديد الذي يصبغ وجهها.
وفي الظهر، في عز الظهر، تلك الفترة التي تقف فيها الحياة تماما ويئوب الناس إلى غداء يسلمهم إلى غفوة لا يفيقون منها إلا في طراوة العصر، في الظهر فتحت عزيزة عينيها فجأة، وكأنها لم تكن نائمة، وانفرجت شفتاها وقالت شيئا. وأدركت أم الحسن أنها تريد أن تشرب، وطلبت من ابن الريس عرفة الصغير أن يذهب ويملأ لها الكوز من زلعتهم فقد فرغت زلعتها، وذهب الولد بالكوز الفارغ. في تلك اللحظة فوجئت أم الحسن بعزيزة تعتدل وتقفز جالسة، ثم تطلق صرخة عالية مدوية ما لبثت أن أعقبتها بصرخات هائلات مدويات. وقبل أن تستطيع أم الحسن أن تدرك أو تعي ما يحدث، وقفت عزيزة وهدمت الظليلة، وما لبثت أن انطلقت تجري ناحية الخليج وهي تصرخ. وبلا وعي، تبعتها أم الحسن وهي تجري هي الأخرى وتصرخ وتستغيث بالناس، مخافة أن تكون عزيزة انتوت أن تلقي بنفسها في الخليج كما كانت تفعل. وعلى صرخاتها جاء الناس من كل مكان، من العزبة ومن الجرن ومن فوق ماكينة الدراس، جاءوا هالعين يرون ما هنالك. وقالت لهم أم الحسن: الحقوها ح ترمي روحها في الخليج، وجرى الناس يحاولون منعها، ولكنها انهالت عليهم عضا ورفسا ونشب أظافر بطريقة مجنونة متوحشة لم يملكوا معها إلا التراجع، ولكنها لم تلق نفسها في الخليج. انطلقت تجري حتى وصلت إلى نفس المكان الذي وجدوا فيه اللقيط، والذي كانت لا تزال فيه آثار الدماء سوداء جافة.
وبين دهشة الملتفين حولها وذهولهم جلست عزيزة القرفصاء على حافة الخليج، وكأنها تتهيأ للولادة، وانطلقت من فمها صرخات متواليات وكأن الطلق اشتد عليها، ثم عسعست بيدها حتى عثرت على عود الصفصاف الذي احترق نفسه والذي كان لا يزال في مكانه من الحافة، وأطبقت عليه أسنانها، واتخذت هيئتها طابعا جنونيا مذعورا وهي تضغط على العود وتنشب أسنانها فيه. وظلت تضغط بتوحش وتضغط وهي تدمدم بأنين محتبس كاسر والدم يسيل من فمها وأسنانها فيلوث العود، وعيناها جمرتان متوهجتان، وشعرها منكوش كشعر الجان، ويداها تعتصران طين الخليج فتحيلانه إلى تراب جاف. وفجأة. وكأن شيئا طق في داخلها تهاوت ممدة على حافة الخليج لا حراك بها.
حدث هذا كله في دقائق قليلة، والناس مشدوهون مذهولون قد جمدهم ما يحدث في أماكنهم، ولم يبدءوا يتحركون إلا حينما انهارت عزيزة، وحين أسرعوا إليها يتحسسونها وجدوها قد ماتت.
وتصاعد من الرجال جئير عريض يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، ونهنهت النساء القليلات الحاضرات، وبكت أم الحسن بحرقة وهي تحاول - مستعينة بالرجال - أن تخلص عود الصفصاف من بين الفكين الميتتين عليه.
أما ابن الريس الصغير الذي كان قد جاء بالكوز ممتلئا لتشرب منه عزيزة، فقد عاد به إلى عشهم، ولكنه توقف بعد قليل واستدار ناحية الخليج وألقى فيه بالكوز ولم يلبث أن تصاعد بكاؤه. •••
ولم يصل الخبر للترحيلة في الغيط إلا بعد الغداء، ولم تستطع جهود الريس أو خولة التفتيش أن توقف ما حدث لهم حين سمعوا الخبر. فقد دب الاضطراب في صفهم الطويل، وحين انهالت العصي الخيزران فوق ظهورهم تأمرهم بمواصلة العمل اعتدلت الظهور لأول مرة، واستدار أصحابها يواجهون الخولة والسواقين بعيون مفتوحة لا تطرف، ونظرات تنذر بثورة لا يعلم سوى الله مداها، ثورة الصامتين الذين طال بهم الصمت والصبر. والغريب أن الخولة والسائقين حين رأوا تلك النظرات بدءوا يغيرون طريقتهم في الحال، فكفوا عن الإهانات والخيزرانات وبدءوا يتحايلون ويسوقون الرجاوات، قائلين: إن عيشهم معلق بما سوف يحدث، وإنهم غلابة وأصحاب عيال.
وانتهى العمل قبل موعد انتهائه المعتاد بأكثر من ساعة، وعاد أنفار الترحيلة يتسابقون على المشايات ويستعجلون إنهاء الطريق.
وفي المساء حفل مكان الترحيلة الكائن خلف الإصطبل بعدد كبير من الناس لم يشهد له مثيلا. فقد جاء الفلاحون من العزبة الكبيرة والعزب الأخرى، وجاءت معهم بعض نسائهم، جاءوا يعزون الترحيلة تعزية الرجل للرجل والند للند. وكانت عزيزة قد وضعت في المكان الذي رقدت فيه أثناء مرضها وغطيت بكيس من أكياس القطن التي كانت تستعمل لهز الدودة، والتف حولها نساء الترحيلة ومن جاء ليعزيهم من نساء العزبة، بعضهن يبكي في صمت، وبعضهن يعدد على عزيزة وميتتها في بلاد الغربة بعيدة عن دارها وزوجها وأولادها، وبعضهن يتحدث ذلك الحديث الذي لا يحلو للنساء إلا في المآتم والجنازات، حديث تحكي فيه المرأة من العزبة للمرأة من الترحيلة أو المرأة من الترحيلة للمرأة من العزبة عن وكستها وميلة بختها مع زوجها المقصر وبثوبها الذي لا يصر حفان ملح من كثرة ما به خروق وثقوب، وأولادها الأشقياء وبنتها التي يجري عليها عريس عنده فدانان.
أما رجال الترحيلة فقد جلسوا غير بعيد في مقدمة الجرن يتقبلون عزاء رجال التفتيش، وقد اختلطت العمم بالعمم والجلاليب بالجلاليب فلم تعد تستطيع أن تميز الفلاح من الترحيلة ولا صاحب المأتم من المعزي. بينما الشيخ أبو إبراهيم الفقي قد احتل دكة النوارج الواقفة على «رمية» قمح نصف مدروس، ومضى يتلو بصوته الأجش المبحوح بعض ما تيسر من سورة النساء، والشمس قرصها يحمر ويغيب خلف كومة التبن الهائلة المتخلفة عن دراس المكنة.
ناپیژندل شوی مخ