ولهذا فقد كان يجد الحرج البالغ كلما دعيت زوجته لزيارة بيت مسيحة أفندي، أو جاءت عفيفة وأولادها لزيارتهم. في عرفه أن تلك الزيارات هي الأخرى بدعة لا تجوز، والزوجة شيء خاص به لا يجب أن يطلع عليه أحد، ولا حتى نساء غيره. الحديث عن اللقيط حينئذ مع زوجته أمر خبيث لا يجوز الخوض فيه؛ إذ هو شيء يمت إلى العالم البغيض الفاجر، عالم ما وراء الباب.
أما في بيت مسيحة أفندي فلم يجسر أحد على فتح باب الموضوع، فالأب كان مغموما لا يدري أحد لم؟ ولنده راقدة لا يزال المغص رابضا في بطنها، في المساء فقط وحين أوى مسيحة أفندي وعفيفة إلى فراشهما وراحت هي في النوم العميق ظل هو - بعده - يتأملها في رقدتها، برقبتها الرفيعة الطويلة التي كثيرا ما تلف حولها منديلا، وشعرها الأكرت الأسود القصير الذي أورثته لأولادها. ظل مسيحة يتأملها برهة يكاد يلكزها بكوعه لتستيقظ وتشاركه حيرته، غير أنه لم يفعل؛ فالموضوع الذي يشغل باله لم يكن يستطيع أن يصرح به لأحد، حتى لو كان هذا الأحد زوجته عفيفة، وكيف يصرح لها بالهواجس الغريبة التي تطوف في باله وتلح عليه؟
كان شكه في مرض لنده قد ازداد إلى درجة بدأ يفكر فيها أن يأخذها إلى الطبيب في المركز في اليوم التالي ليكشف عليها، لا ليرى إن كانت مريضة حقيقة، ولكن ليرى أيضا كنه ما حل بها. البنت تعدت سن الزواج، وهي حلوة وموفورة الصحة وتحيا في فراغ كبير، ومن الجائز جدا أن يكون الشيطان قد أغواها.
كان قلب مسيحة يهبط كلما وصل إلى هذا الحد من تفكيره، كان يحس به حقيقة يهبط، وكأنه يسقط من عل، ولكن الهواجس لا ترحمه، تمضي تصور له ما يمكن أن يحدث لا قدر الله، الفضيحة وخيبة الأمل والحيرة العظمى، فمن المحال حينئذ أن يتزوجها ابن المأمور لألف سبب وسبب تراه ماذا يصنع حينئذ، وبأي وجه يحيا في التفتيش، وبأي صورة يواجه الناس؟
وتستبد به الخواطر عنيدة فارضة نفسها عليه، تلهب عقله وتجعله يتقلب في الفراش ناظرا بحقد إلى عفيفة المستغرقة في سابع نوم، مخنوقا بالدموع المحتبسة في حلقه التي لا تريد أن ترحمه هي الأخرى وتسيل من عينيه.
وبينما هو في خضم ذلك الكابوس الرهيب عن له سؤال: أليس من الجائز أن يكون مخطئا؟ ماذا لو ثبت أن اللقيط مثلا ابن واحدة من الغرابوة، ألا يعد تفكيره على هذا النحو واتهامه لابنته وطعنه شرفها ضربا من الجنون والعته؟
تشبث مسيحة أفندي بالخاطر، وكأن فيه إكسير نجاته، واندفع يبحثه على وجوهه ويقلبه، وكلما فعل هذا بدأ قلبه يعود إلى مكانه من صدره وبدأت حركته تقل وبدأ يتنفس براحة وحرية، وبدأت تثاؤبات النوم تأخذ طريقها إلى نفسه.
وفي الصباح كان أول ما فعله حين أصبح في حجرة مكتبه أن سأل عن المأمور. فلما قيل له إنه في مكتبه دق الباب بحرصه المعتاد ودخل، وبعد تبادل التحية تفرس فيه فكري أفندي المأمور طويلا ليدرك هدفه الخبيث من تلك الزيارة الصباحية، فزيارات الباشكاتب لمكتبه قليلة ونادرة، ودائما وراء كل زيارة هدف، والهدف على الدوام خبيث. غير أن الذي حير فكري أفندي أن مسيحة لم يقل في زيارته الشيء الكثير، ظل جالسا مدة يتحدث في الأمور المعتادة، ثم سأله سؤالا عابرا عما تم في حكاية اللقيط. أجابه فكري أفندي عليه بحسن نية، ولكن ما أدهشه أن مسيحة بدأ يطعن في الغرابوة فجأة وبشدة، ويصر - ويكاد يقسم - على أن الفاعلة لا بد واحدة منهن. ثم ما لبث أن استأذن محتجا بالعمل، وترك فكري أفندي حائرا في تفسير هذا التحيز المفاجئ منه ضد الترحيلة، ولم يتح لفكري أفندي أن يحتار طويلا، إذ دق بابه بعد قليل، وبشخطته المعهودة قال: ادخل . وإذا بالقادم محبوب بوسطجي التفتيش، وإذا ببرنيطته المصنوعة من قماش أزرق مائلة على جبهته والدموع تملأ عينيه، والشهقة ترفعه ولا تتركه إلا لشهقة أخرى تهوي به، وإذا بالمشكلة التي جاء لأجلها أغرب مشكلة: ما لك يا محبوب؟
قالها فكري أفندي وهو يغالب الضحك.
ولم يرد محبوب، مد يده القصيرة إلى الحافظة المتدلية بجواره والتي قصر «إبزيمها» إلى آخره ليمنعها من أن تلامس الأرض، مد يده وأخرج منها خطابا مفتوحا ظرفه بعناية وبلا تمزق، ولم يقل حرفا.
ناپیژندل شوی مخ