حقیقت
الحقيقة: وهي رسالة تتضمن ردودا لإثبات مذهب دارون في النشوء والارتقاء
ژانرونه
وقد أثبتوا بذلك حكمة الخلق أكثر من سواهم من فرقتهم؛ إذ أثبتوا وحدة الخلق في الطبيعة أو كادوا، واتفقوا مع الواقع أو كادوا، وبعضهم - وهم فرقة من العلماء - رأوا ما رأوا، وعلموا ما علموا، ولكنهم حاروا بين المنقول المتأصل والمنقول المتحصل، وبعضهم - وهم فرقة من العلماء أيضا - رأوا ذلك وعلموه جيدا، إلا أنهم تصعبوا فيه، فطلبوا أن يروا بالعيان إنسانا منشقا من حيوان، وربما كان السبب الأكبر لعدم انضمامهم إليه رفعة مقامهم في عالم العلم، والعين قالوا: لا تحب نظيرها، فكان ذلك فيهم مصداقا لما في مذهب دارون، ألا وهو تنازع البقاء.
الفصل الثاني
في تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي
إن مذهب دارون بسيط جدا، ويقدر كل إنسان أن يدركه إذا نظر إلى الأشياء كما تعرض له، وتأملها بعين العقل التي لا يشوبها كدورة سبق الاقتناع، وإنا نعجب من أولئك الذين يشقون حجب الغيب بقوة عقلهم، ويدركون ما وراءها من الأسرار كيف أنهم لا يقدرون على إدراك ما هو أمامهم، وواقع تحت حواسهم كما هو حقيقة. والغريب أنهم يوميا في زرع النبات وتربية المواشي يجرون على قواعد هذا المذهب عمليا، وإذا سألتهم عنها نظريا أنكروها، وذلك دليل من أقوى الأدلة على ما لسبق الاقتناع من السطوة، وما للعقل من القابليات المختلفة الخاضعة لأحكام الحياة من مثل التغذية والوراثة.
فمن يجهل يا ترى اختلاف أفراد النبات والحيوان؟ وهل يستطيع أحد زارعا بسيطا كان أم عالما أن ينكر أن من هذا الاختلاف ما هو صالح لبعض الأحوال وغير صالح للبعض الآخر؟ أو ينكر ما للغذاء والأحوال الأخرى الطبيعية من اليد القوية في إحداث هذا الاختلاف تبعا لناموس المطابقة؟ وما للوراثة من القوة في نقل صفات هذا الاختلاف في النسل، وكيف أن هذه الصفات تقوى إذا ناسبتها الأحوال، وتضعف إذا لم تناسبها؟
لا لعمري، فالزارع كالعالم يعرف أن البذار الجيدة؛ أي المتميزة ببعض الصفات لمناسبتها لبعض الأحوال، أحسن من البذار الرديئة التي ليس لها ذلك؛ فيفضلها عليها، ويعرف كذلك أن الأرض الجيدة أنسب من الأرض الرديئة فيفضلها عليها أو يعتني بها، فيقدم لها المواد اللازمة لإصلاحها، ويقتلع منها كل الأعشاب؛ لعلمه بما يحصل بينها وبين مزروعه من التنازع على الغذاء والمكان، وما يلحق بمزروعه من الضعف بسبب هذا التنازع؛ فيمهد له الأرض حتى تنصرف كل قواه إلى التغذية والنمو.
ويعرف كذلك أن المواشي الحسنة المنظر، والصحيحة البدن، والشديدة، أنسب من سواها مما ليس فيه هذه الامتيازات، فيعتني بتربيتها وتوليدها، فهل رأيت امرءا يريد شراء دابة ولا يقلبها ظهرا وبطنا، وما غايته بذلك سوى قنية ما يعتبره أنسب له، ثم إذا اقتناها ألا يعتني بغذائها ومسكنها وما شاكل مفضلا مبدلا؟ ولماذا هذا التفضيل والتبديل لولا معرفته بما لذلك من التأثير في تغيير صفاتها في الشكل والقد والحسن والقوة ... إلخ؟
وإذا أراد استيلادها، ألا ينتخب لها الأحسن من نوعها، ولم ذلك لولا يقينه بما لعمل التوليد من القوة على نقل الصفات المختلفة، حسنة كانت أم قبيحة؛ فالزارع البسيط لا يجهل مثل هذه الأمور، بل هو من أشد الناس اعتبارا لها، وكل طبيعي عارف بالفسيولوجية يعلم أن التغذية كالوراثة من قوى الحياة الحقيقية المثبتة لا الفرضية.
وإذ تقرر ذلك، فاسمح لنا أن ننظر إلى نتيجته، فالاختلاف الذي ينشأ عن المطابقة؛ أي عن انفعال القوة الغاذية بالأحوال الخارجية الطبيعية، وإن كان قليلا، يجعل في الأحياء قابليات وجودية مختلفة، فيطلب الضعيف القوت، فينازعه القوي عليه، وإذا كان القوت قليلا يهلك الضعيف، أو إذا اشتد البرد أو قل الماء فلا يثبت إلا ما كان أقوى على تحمل البرد، وأصلح لتناول الرطوبات من الهواء.
ولا يخفى عليك أن عدد البيوض أو الجراثيم التي تولدها الأحياء، والتي يقدر كل منها أن يولد حيا إذا وافقته الظروف هو أكثر كثيرا من عدد الأحياء المتولدة حقيقة، فالعدد الأكبر من هذه الجراثيم يهلك في أوائل حياته، ولا يسلم إلا القليل المتميز ببعض صفات تسهل له قطع هذا الطور من الحياة الكثير الأخطار، كما يتضح لك من مقابلة عدد بيوض كل نوع بعدد الأحياء فيه، أو من مقابلة عدد الأحياء الكثيرة الجراثيم أو البيض بغيرها من القليل الجراثيم، فلا تجد نسبة بينهما، فإن عددا كبيرا من الحيوانات الفقرية القليلة الوجود يبيض بيوضا كثيرة حال كون غيرها من الفقرية أكثر منها وجودا، مع أنه لا يبيض إلا بيوضا قليلة.
ناپیژندل شوی مخ