الحقیقه: مقدمه قصیره جدا
الحقيقة: مقدمة قصيرة جدا
ژانرونه
عند هذه النقطة، يبدو من المنطقي أن نشك في أن ثمة خطأ في مفهوم النفس التي ترى دفقا موحدا من المعلومات الحسية. ربما كان يوجد فقط عمليات عصبية عديدة تحدث في الدماغ وعمليات عقلية عديدة تحدث في العقل، دون أن توجد وكالة مركزية يتم فيها تجميع كل ذلك في لحظة معينة؛ لحظة «الزمن الحاضر» الحسية. ولعل النفس التي نضعها في بؤرة حياتنا العقلية ما هي إلا خيال مرض لا يستند إلى حقيقة واضحة. وإذا لم يكن ثمة وقت محدد لظهور المحتوى الحسي على مسرح النفس (نظرا لعدم وجود مثل هذا المسرح من الأساس)، فسوف تصبح ظاهرة بيتا أسهل بكثير في الاستيعاب. إن الإدراك الخاطئ المتمثل في بقعة الضوء الحمراء التي تتحول إلى اللون الأخضر لا يثار في الدماغ إلا بعد إدراك البقعة الخضراء، إلا أن التتابع الذي يراه المشاهد قد يكون «بقعة حمراء - بقعة حمراء تتحول إلى اللون الأخضر - بقعة خضراء ». عندما تقرأ عبارة «خرج الرجل من منزله مسرعا، وقبل ذلك قبل زوجته»، يكون الترتيب الذي وردت به المعلومة هو «الخروج ثم التقبيل»، ولكن ترتيب الأحداث الذي تستنتجه من العبارة هو «التقبيل ثم الخروج». نظرا لعدم وجود واقع موضوعي حول الوقت الذي يصبح فيه الشيء مدركا ذاتيا (بدخوله إلى المسرح)، فليس هناك حاجة لافتراض مهلة زمنية منتظمة لتفسير عدم محاذاة ما يحدث في الدماغ وما يحدث في الوعي والذي تظهره ظاهرة بيتا. ولكي ندرك وقوع الأحداث بترتيب معين، ليس من الضروري أن ترد المعلومات إلى المخ بهذا الترتيب نفسه.
إن رفض النفس بوصفها المركز الرئيسي لعالمنا العقلي ليس ظاهرة فلسفية حديثة؛ فهي ترجع إلى ألفي وخمسمائة عام مضت، عندما وصف بوذا في الهند القديمة نظرية غياب النفس.
وفقا لهذه النظرية، نحن نتكون من جسد وأربعة مكونات نفسية، تتفق مع الوظائف المعرفية المختلفة. ولا يمكن تجسيد النفس في أي من هذه المكونات (لأنها تتغير باستمرار، في حين أن من المفترض أن تكون النفس مستمرة)، كما أنها لا يمكن أن تكون توليفة من كل هذه المكونات معا (نظرا لأن النفس هي عبارة عن شيء واحد موحد، وليست ائتلافا من العناصر المتغيرة). والنفس أيضا ليست شيئا قائما بذاته، ومنفصلا عن العناصر الأربعة الأخرى؛ وهذا لا يعني أننا ينبغي أن نكف عن الكلام عن النفوس والأشخاص؛ إذ إنها تشكل جزءا مهما من كيفية إدراكنا للعالم. ولكن النفس ليست أكثر من كيان اسمي بحت. وهي متراكبة (مفروضة) على مكوناتنا المادية والعقلية لأسباب عملية محضة. وهي تسمح لنا بتحديد موقعنا في العالم، تماما كما يسمح لنا مؤشر الماوس بتحديد موقعنا على واجهة الكمبيوتر. ولكن على غرار المؤشر الذي ليس «في» الكمبيوتر، وليس كائنا مستمرا (إذ إنه يختفي عندما نغلق الكمبيوتر)، ولا يدخل في تركيب مركز أعمال الكمبيوتر، فالنفس أيضا تختلف عما تبدو عليه بالنسبة لنا.
مقتطفات من حوار ماهابوناما «أيها الرهبان، ما رأيكم؟ هل المادة باقية أم زائلة؟» - «زائلة، يا سيدي الموقر.» - «هل الأشياء الزائلة تجلب المعاناة أم السعادة ؟» - «المعاناة، يا سيدي الموقر.» - «هل الأشياء الزائلة التي تجلب المعاناة وتخضع للتغيير يمكن أن نصفها بالكلمات التالية: هذه لي، هذه أنا، هذه نفسي؟» - «لا، يا سيدي الموقر.» «أيها الرهبان، ما رأيكم؟ هل الشعور والإدراك ورد الفعل والوعي أشياء باقية أم زائلة؟» - «زائلة، يا سيدي الموقر.» - «هل الأشياء الزائلة تجلب المعاناة أم السعادة؟» - «المعاناة، يا سيدي الموقر.» - «هل الأشياء الزائلة التي تجلب المعاناة وتخضع للتغيير يمكن أن نصفها بالكلمات التالية: هذه لي، هذه أنا، هذه نفسي؟» - «لا، يا سيدي الموقر.» «لذا، أيها الرهبان، فأي نوع من المادة، سواء في الماضي أو في الحاضر أو المستقبل، ينبغي أن يوصف على حقيقته بالحكمة المناسبة: هذه ليست لي، هذه ليست أنا، هذه ليست نفسي. وأي نوع من الشعور والإدراك ورد الفعل والوعي ينبغي أن يوصف على حقيقته بالحكمة المناسبة: هذه ليست لي، هذه ليست أنا، هذه ليست نفسي.»
عندما نقول إن النفس متراكبة (مفروضة) على المكونات، يتبادر إلى الذهن سؤال: «من الذي يركبها (يفرضها)؟» عندما نتأمل النفس بوصفها الموحد لعالمنا التجريبي، فمن المنطقي أن نراها أشبه بالطيار في محاكي الطيران. فمن نطاق من المدخلات الإدراكية، يخلق دماغنا صورة للعالم تعمل عليها النفس. فنحن لا نستطيع أن نخطو خارج أدمغتنا؛ ومن ثم ليس لنا سبيل إلى اكتشاف العالم خلف المحاكاة الموجودة داخل القحف، بل إنها بالنسبة لنا لا تبدو كمحاكاة من الأساس. ولكن المشاكل التي يثيرها مفهوم المسرح الديكارتي تقترح عدم وجود طيار، وعدم وجود نفس تتم لصالحها المحاكاة. بدلا من ذلك، فإن مجموعة مكوناتنا المادية والعقلية تعمل كمحاكي طيران كامل، لا يحاكي المعلومات المستقبلة في مقصورة الطيار فحسب، وإنما يحاكي الطيار أيضا؛ فالنفس بوصفها الموحد لمدخلاتنا الإدراكية هي عبارة عن محاكاة أو خيال، إلا أنه لا يوجد شخص غير محاكى أو غير خيالي يشاهد المحاكاة أو يعيش هذا الخيال.
ومن المدهش أن نلاحظ أن النفس الموحدة تلقى هجوما أيضا من اتجاه غير متوقع إلى حد ما؛ ألا وهو تفسير معين للفيزياء الكمية .
نذكر أنه وفقا لبعض التفسيرات يحدث انهيار الدالة الموجية عندما يتفاعل الوعي مع الكائن الكمي المراد قياسه. هذا التفاعل، أي القياس، يحدد بعد ذلك أي من الخواص التي يمكن أن يتسم بها الكائن الكمي هي الخاصية الحقيقية. وبعد القياس، سوف يحمل الكائن هذه الخاصية فحسب ولن يحمل أي خواص أخرى. ومع ذلك فالتفسير الذي يهمنا هنا يزعم أنه بعد القياس، كل الخواص المختلفة الممكنة هي خواص يمتلكها الكائن الكمي. ونظرا لأنه لا يوجد شيء يمكن أن تكون له خواص مختلفة متعارضة في الوقت نفسه، فهذا يعني ضمنا أنه عندما يتم رصد الكائن، ينقسم الكون إلى مجموعة من النسخ المتقاربة، الأولى تستمر في مسارها مع امتلاك الكائن الكمي خاصية واحدة، والثانية يمتلك فيها خاصية أخرى، وهكذا، هذا هو المكافئ الكوني لرواية بورخيس المتاهية التي تصف شخصية تسوي بن؛ حيث كل خيار يختاره بطل القصة يؤدي إلى روايات عديدة أخرى، واحدة لكل نتيجة محتملة. وفي شجرة الاحتمالات المتواصلة التفرع هذه، كل ما يمكن أن يحدث يتم وصفه في رواية ما.
ويتيح لنا «تفسير العوالم المتعددة» المزعوم هذا تفسير تجارب فيزيائية مهمة للغاية دون الحاجة لافتراض وجود اختلاف جوهري بين العقل والمادة. ومن ناحية أخرى، بما أننا نحن، كراصدين، كائنات مادية أيضا، فإن عمليات القياس تقسمنا، بحيث تنقسم نفوسنا إلى أنفس متعددة منفصلة تستأنف وجودها في أكوان منفصلة، ولا تتلاقى وتتوحد مرة أخرى على الإطلاق؛ فالأمر كما لو كنت عندما ترمي زهر النرد، لن تحصل على رقم معين فحسب، ولكنك تخلق خمسة أكوان أخرى كاملة في الوقت نفسه، يشتمل كل منها عليك وقد رميت زهر النرد للتو وظهر لك واحد من الأرقام الخمسة الباقية.
ولكن أي هذه الأنفس هي نفسك؟ إذا كانت كل منها استمرارا لك، فإنك لن تستطيع أن تملك نفسا موحدة؛ نظرا لأن النفوس الستة ستتطور في اتجاهات شديدة التباين، وتملك تجارب مختلفة، وتختار اختيارات مختلفة، في حين أن النفس الواحدة من المفترض أن تتطور في اتجاه واحد فقط، وتملك مجموعة واحدة من التجارب، وتختار نوعا واحدا من الاختيارات. أما إذا كانت إحدى هذه الأنفس هي أنت، إذن فأنت كما يبدو ستصبح خالدا.
قم بالتجربة التالية؛ خذ جهازا يقيس خاصية معينة في كائن كمي. يمكن أن تكون هذه الخاصية موجودة في الكائن أو غير موجودة، والاحتمالية متساوية في الحالتين، والآن اربط هذا الجهاز بمسدس. كل دقيقة يقيس الجهاز كائنا كميا مختلفا ولا يفعل شيئا إذا كانت الخاصية المراد قياسها غير موجودة. أما إذا كانت الخاصية موجودة، فإن الجهاز يطلق المسدس ويصيبك في رأسك. إذا أجريت هذه التجربة، فسيبدو لك كأن المسدس لا يطلق النار مطلقا؛ لأنه كلما فعل ينقسم العالم إلى عالمين، تكون الخاصية غير موجودة في أحدهما، ولا يطلق المسدس النار. واستمرار نفسك هو النفس الموجودة في العالم الذي لا يطلق فيه المسدس، وليس النفس الميتة الموجودة في العالم الذي يطلق فيه المسدس. (أما إذا كنت تراقب شخصا آخر يجري التجربة، فستكون هناك احتمالية 50٪ أنك ستراه يسقط ميتا بعد الدقيقة الأولى.) وما دام احتمال عدم وجود الخاصية المراد قياسها ليس صفرا، فإنك تستطيع البقاء على قيد الحياة في مثل هذا السيناريو للأبد. من الواضح أن الفكرة نفسها يمكن أن تطبق خارج التجربة أيضا. بما أن انقسام العوالم يحدث طوال الوقت، ما دام هناك عالم تعيش فيه هو نتاج مثل هذا الانقسام قبل موتك مباشرة، فسوف تستمر على قيد الحياة في هذا العالم، وبما أن «نفسك» في هذا العالم هي نفسك الحقيقية، فإنك لن تمر بتجربة موتك إطلاقا.
ناپیژندل شوی مخ