الفصل الأول
أقسم أني هذه المرة عييت؛ أعياني سائل من الفضوليين أو غير الفضوليين، يسألني: «علام نحتفل لانتصار الحلفاء في أفريقيا؟» لم أعي من السؤال؛ بل من وجود السائل ... كنت فيما مضى أتحاشى السائلين، فرارا من القيل والقال، فإذا بالسائلين - منذ زمن - كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة. لعلهم هذه المرة توقعوا سلفا - من البداية - جوابنا الصارخ؛ بل الصاعق: «العمى! إذا لم تحتفل لهذا الحادث العظيم، عصبة مكافحة النازية والفاشية، فمن يحتفل له؟! وإذا لم نحتفل الآن - وعندنا أسباب أخر - فمتى نحتفل؟» ذلك أن المحور قد أضاع نهائيا، وفي وقت معا، قارة هي أفريقيا، وبحرا هو المتوسط، وأضاع جيشا جرارا وعتاده ضخم، وأضاع وقتا ثمينا «سحبه» على المستقبل لإطالة أجله القريب. وعما قليل، تنتصب الأمم المتحدة على عتبة ذلك الصرح الممرد الذي أسماه هتلر: حصن أوروبا الحصين (ونسميه نحن: سجنها المطبق)، فتهوى على بابه المخوف، بقبضات من حديد ونار، ثم تنقض بنيانه، وتدك جدرانه. عما قليل تتنفس الصعداء، وتقطع السلاسل شعوب طعينة سجينة، شريدة شهيدة، وقد أخذ بعنق النازية من الشرق والغرب، فكا الكلابة التي لا تدفع، فيلفظ الوحش نفسه الأخير.
وقفت عشية يوم بباب فاكهاني، وكان قد سبقني إليه بعض الزبائن، يطلب كيلو أو كيلوين من العنب، فوضع البائع عنبه في كيس من ورق، وجعل الكيس (طبعا) في إحدى كفتي الميزان، وكان يزيد في الكيس، خصلة بعد خصلة ليتم الوزن، لكن يظهر أن الكفة لم تكن عند رغبة الفاكهاني، أو وفق هواه؛ لم تهبط بما يرجو من السهولة، فأراد أن ينتقم من عناد الميزان، فتناول خصلة صغيرة يصح أن نسميها «الضربة القاضية» لأنها رجحت الكفة عنوة، بفضل قبضة يد البائع العنيف، في عتمة القنديل الأزرق، وبأسرع من لمح البصر، قبل أن «يرتاح» الميزان، ينتزع الفاكهاني الكيس بمهارة بهلوانية، ويقول للزبون بلطف نادر المثال: «تفضل!» لقد أعطاه بعض حقه وزيادة، أعطاه ثقل يده الغاشمة. فهل رأيتم أرأف من هذا التاجر بميزانه؟ إنه يساعده بكل ما فيه من قوة، وما عنده من حيلة. ثم ابتدرني الفاكهاني بالسؤال قائلا: «اؤمر.» أجبت: «لا شيء، كنت أفكر في هتلر ذلك اللعين ونظامه الجديد، وكيف أنه وقع أخيرا على من يكيل له الصاع صاعين، ويبادله الضربة ضربتين ...» فقاطعني الفاكهاني قائلا: «هكذا تقول الجريدة!» وانصرف إلى «خدمة» زبون آخر لا يشتغل مثلي في السياسة.
إذا كان هتلر قد أضاع قارة وبحرا، وجيشا وعتاده الضخم، ووقتا ثمينا من المستقبل كان يرجو أن يطيل به أجل النازية ونظامها الجديد، فماذا أفدنا نحن؟ ماذا جنينا من ثمار النصر العظيم الذي أحرزه الحلفاء في أفريقيا؟
لقد أفدنا مباشرة إبعاد شبح الحرب الذي طالما جاس خلال ديارنا، وأفدنا بصورة عامة اقتراب ساعة النصر الحاسم المبين الذي طالما بشرنا به - نعني: فوز قضية الحرية في العالم. وبديهي أن عصبة مكافحة النازية والفاشية لم تجتمع، ولم تنشط، ولم تجاهد للدفاع عن قضية عالمية؛ إلا لأن هذه القضية العالمية هي في الوقت نفسه قضيتنا، قضية بلادنا، وبالدرجة الأولى. لقد أفدنا تصريحا باستقلالنا الوطني، وتمكينا من ممارسة الحياة الدستورية - المرحلة الأولى، أو قبل الأخيرة نحو الاستقلال المنشود - وهكذا ترون أن الثمار التي جنيناها، أو سنجنيها من انتصار الأمم المتحدة، في ميادين القتال: الجيش الأحمر العظيم في الشرق، والجيوش البريطانية والأمريكية والفرنسية في أفريقيا، وعما قليل في الغرب الأوروبي. أن هذه الثمار لا تشبه في شيء عنب صاحبنا الفاكهاني الذي يطبق النازية في دكانه، كلما سول له الهوى أن يساعد الميزان بقبضة يده اللبقة الغاشمة. وإني لأتساءل الآن: ما الذي كان يصل إلينا من حقنا في الحياة الحرة الرغدة الآمنة، لو وزن ذلك الحق في ميزان النازية التي لا تخلو كفتها - الراجحة أبدا - من عصا مارشال، وتدجيل داعية، وأفضلية العرق الجرماني؟ ذاك ميزان، لو وضع العالم كله في كفته الثانية، لما رجحت الميزان الذي لا يعتدل.
أعجبتني كلمة للكاتبة الأمريكية بيرل باك ... كتبت أخيرا تقول: «إن أهل الفيلبين، يوم قاتلوا إلى جانبنا، لم يحاربوا الاستعباد الياباني دفاعا عن استعبادنا لهم، أو عن عبوديتهم لنا؛ بل لإنهم شعروا بأن حقهم في الحرية والكرامة يحترم عندنا.» ولعمري متى يفقد امرؤ أو شعب هذا الشعور بأن حقه في الحرية والكرامة محترم، ومحترم إلى حد التقديس، فأي معنى يبقى لحياته؟ وأي ثمن لا يؤديه، لفرض هذا الحق في الحرية والكرامة، بوجه العالم قاطبة؟ ولعمري إن الفرق لواضح بين من يدافع عن شيء هو له، وبين من يدافع عنه وللآخرين في شركة، حظه منها القسمة الضئزى. لقد أتى هتلر على حريات الشعوب الأوروبية، وانتهك أقدس كراماتها، ثم سمى سجنه المخوف حصنا حصينا. فواعجبا لذلك الحصن، ليس الخصوم الذين يهاجمونه من خارج أقل عددا وعداء من الخصوم الذين يناوشونه داخل السور! لو كانت القارة الأوروبية في ظل النظام النازي، ذلك الحصن الحصين الذي تتوافر الهمم، وتتضافر الجهود على حمايته والدفاع عنه، لكان من العسير أخذه. لكن القارة الأوروبية اليوم سجن مخوف لشعوب مستعبدة تحتدم بالثورة، ولن تلبث حتى تنفجر كالبركان. كذلك كانت روسيا القيصرية، فبادت، كما سيقضى على النظام الهتلري. إن حق الشعوب في الحرية والكرامة لا يمكن أن يبقى منتهكا، أو سليبا، أو مسكوتا عنه، إلا إلى حين. وفي هذا السياق من المعاني يصح القول إن لبنان المستقل المتمرس بالحياة الدستورية، لن يكون همه الأول سوى التضامن مع الأمم المتحدة، ومساعدتهم وسع الطاقة في مجهودهم الحربي؛ للقضاء على النازية أصلا وفروعا.
لم يكن من الحسن ولا الرشد في شيء أن تفاجئنا السلم، وليس في الأرض اللبنانية المستقلة حكومة دستورية ديمقراطية يختارها الشعب اللبناني من أبنائه البررة العاملين الصادقين لتصريف شئونه، ولا سيما لتمثيله بين الأمم؛ لهذا يدعى اللبنانيون إلى انتخاب نوابهم، ولهذا يجب أن يحسنوا الاختيار، هذه المرة ولا أية مرة! هو شرط بديهي، لكنه أساسي، أساسي كالحياة.
فلينظر اللبنانيون، ثم لينظروا، بأي وجه يهمهم أن يطلع وطنهم على الدنيا، من ظلمة هذه الحرب! إن اللبنانيين أنفسهم هم الذين يصورون ذلك الوجه، ويرسمون ملامحه وشياته، ويؤلفون محاسنه ومفاتنه. وأكبر الظن أنهم لن يريدوا - منذ اليوم - وجها من الوجوه الزائفة والمستعارة؛ فهذه الوجوه لا موضع لها، إذا جد الجد في حياة الأمم. إنما تصلح الوجوه الزائفة أو المستعارة للمساخر.
نريد وطنا، لا طيف وطن. نريد وطنا من لحم ودم. نريد وطنا يحب ذاته ويحترمه الآخرون، يعرف كيف يحب ذاته، وكيف يفرض احترامه على الآخرين.
في صيف 1940 كنت - كل أسبوع، مرة أو مرتين - أستقبل في منزلي سرا، كأننا على موعد لقاء، جريدة لا توحي بشيء من صفات الجرائد الضخمة الرنانة التي يلوح بها، وينادى عليها في السوق، بأصوات تصم الآذان، وتطاير من كل مكان.
ناپیژندل شوی مخ